الجابري وخفايا مدخله الفلسفي إلى القرآن

حسين الوادعي
السبت ، ٠٦ مايو ٢٠٢٣ الساعة ٠٢:٢٤ صباحاً
مشاركة |

ليس المفكر العظيم ذلك الذي يقدم لك إجابات جاهزة للقضايا الكبرى في الفكر والحياة، لكنه ذلك الذي يثير في عقلك من الأسئلة أكثر مما يقدم من الإجابات. 

الدكتور محمد عابد الجابري لكل من عرفه من ذلك النوع من المفكرين.

قبل ثلاث سنوات فاجأنا الجابري بكتابة "مدخل إلى القران الكريم. الجزء الأول: في التعريف بالقران". وكل الذين اندهشوا من رغبة المفكر الكبير ان يكون مفسرا عرفوا بعد قراءتهم للكتاب انه يحمل في طياته نفس صفات المفكر الكبير.

فالكتاب يحمل من الأسئلة أكثر مما يقدم من إجابات. 

والاهم من ذلك ما كان يريد الكتاب ان يقوله لم يظهر بشكل واضح في الكتاب وإنما عليك أن تبحث عنه فيما بين السطور!

لماذا يحتاج القران الكريم الى تعريف؟ ألا نعرفه جميعنا ويتواجد معنا في حياتنا وعباداتنا واستشهاداتنا؟

ما هو التعريف الذي يسعى الجابري لتقديمه عن القران. 

يرى الجابري ان القران ليس فقط "المصحف" الذي نتلوه كل يوم بل انه تلك "الظاهرة القرآنية" المليئة بالأسئلة والإشكالات التي طرحت قديما وحديثا من اجل فهم القران الكريم وتقديمه للناس.

فالقران لم ينزل كما هو بين أيدينا الآن: مصحفا محفوظا بين غلافين ولكنه مر بمراحل كثيرة ونسخت الكثير من آياته ونقل باختلاف في الألفاظ والمعاني والترتيب واللهجات. كما جرت حوله خلافات كثيرة حول أحرفه وقراءاته، وهل هو كلام الله بأحرفه ومعانيه أم بمعانيه فقط، وحول ظروف جمعه وهل تم كاملا أم ناقصا، وحول ترتيب سوره وآياته.

هذه القضايا كانت قضايا حيوية عند المسلمين الأوائل فيما سمي ب"علوم القران" لكنها اختفت من علاقة المسلمين المعاصرين بالقران رغم أهميتها في الفهم السليم للقران. وتعريف مسلمي القرن الحادي والعشرين بالقران مرة أخرى مهم لكي نصبح معاصرين للقران ونجعل القران معاصرا لنا. من الأسئلة والقضايا والإشكالات التي يناقشها الجابري ل"إعادة التعريف" بالقران نختار القضايا الست التالية:

1- حول وحدة الأصل في الديانات التوحيدية الثلاث:

ليس القران كتابا معزولا عن الكتب السماوية السابقة ولا الإسلام دين معزول عن الديانات التي سبقته. في البداية كان هناك الدين الحق، دين إبراهيم أبو الأنبياء. لكن كلما مضى الزمن كانت الاديان تبتعد عن جذورها وتنحرف عن أصولها. فاليهودية او"الموسوية" عودة اولى الى جوهر "الدين الحنيف" ما لبثت ان حرفت مع مضي الزمن حتى ظهرت المسيحية كثورة تصحيحية لليهودية التي ما لبثت ان تحولت الى ديانة مختلفة فعدلت وانحرفت عن جوهرها الاصلي. قبل ظهور الدعوة المحمدية كانت الجزيرة العربية فضاء لحرية الاعتقاد فقد تعايشت فيها لمدة طويلة اليهودية والنصرانية والحنيفية والاديان الوثنية.

كانت الساحة مزدحمة بالباحثين عن الدين الحق قبيل ظهور الدعوة المحمدية، وكانت المسيحية الرسمية قد انحرفت عن أصولها باعتناقها عقيدة التثليث لكن كانت هناك فرقة مسيحية تدعى الاريوسية رفضت الوهية المسيح وقالت انه بشر. هذه الفرقة هي التي اطلق عليها القران فيما بعد مصطلح "النصارى" ودافع عنها الرسول والقران ضد الفرق المسيحية الاخرى التي قالت ان المسيح ابن الله. الحنفاء أيضا شكلوا حركة توحيدية اقترب منها الرسول كثيرا وتاثر بها ومدحهم كثيرا بعد نبوته. واستمر في الجزيرة العربية ذلك البحث الدؤوب عن الدين الحق، حتى ظهرت نبوة محمد لكي تجيب عن السؤال وتخلص الناس من حيرتهم لا لتؤسس دينا جديدا وإنما لكي تعود إلى الدين الأول دين إبراهيم أبو الأنبياء.

هكذا ارتبطت الدعوة المحمدية بالدعوات التوحيدية التي سبقتها مثل دعوة "اريوس" القس الذي قال ببشرية المسيح وحركة الحنفاء الموحدين. هذا هو المحيط العقائدي الذي ظهر فيه القران ولا يمكن فهمه الا من خلاله. فهناك شجرة نسب واحدة للأنبياء جذعها المشترك هو إبراهيم أبو الأنبياء، فالأنبياء جميعهم أحفاد إبراهيم الخليل. وهذه هي القضية الاولى التي لا بد من اخذها في الحسبان في فهمنا للقران الكريم.

2- القران وجميع الكتب المنزلة متفرعة عن "ام الكتاب":

القران ليس معزولا عن التوراة والإنجيل ولكنه جاء مصدقا لها ومؤيدا لها. فجميع الكتب السماوية مأخوذة عن النسخة الأصل "ام الكتاب" أو اللوح المحفوظ. وهذه الكتب السماوية هي نسخ عن هذه النسخة الأصل ،وهي لا تختلف فيما بينها في المضمون وإنما في الأسلوب فقط.

3- القران ليس المصحف:

تحول القران منذ جمعه في مصحف إلى أيقونه أو حرز أو رمز أو سر مقدس لا يجرؤ احد على محاورته. لم يعد احد يجرؤ على التعامل الخلاق معه. تحول القران من ظاهرة حية الى ظاهرة معزولة ونص صلب جامد نهائي، تفسيراته منجزه، وقضاياه محسومه والتساؤلات حوله محرمه. ويطرح الجابري هذا السؤال بجرأة:

"هل "المصحف الإمام" ـ الذي جمع زمن عثمان والذي بين أيدينا الآن- يضم القران كله:جميع ما نزل من آيات وسور، أم انه سقطت (أو رفعت) منه آيات عند جمعه."

يرى الجابري ان جميع علماء الإسلام من مفسرين ورواة حديث وغيرهم يعترفون بان ثمة آيات وسور قد سقطت ولم تدرج في المصحف استنادا إلى الآية الكريمة " وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها الم تعلم أن الله على كل شيء قدير".

فسورة الأحزاب كما هي الآن في المصحف لا تتعدى 73 آية، بينما كانت في الأصل أكثر من 200 آية. أما سورة ببراءة فقد اجمع المفسرون انه لم يبق منها إلا ربعها. إضافة إلى اختلاف بعض المفسرين حول بعض السور التي رأى البعض أنها من القران ورأى آخرون انها مجرد أدعية وليست سورا، والآيات التي نسخت او أًنسيت مثل آية  الجهاد وآية الصفوف الأولى وآية الرجم... الخ. ولا يعتقد الجابري أن هذا يتعارض مع الآية الكريمة "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فالقران نفسه ينص على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ.

فالقران هو مجمل الآيات والسور التي نزلت خلال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، اما المصحف فهو الآيات التي جمعت على زمن عثمان بعد أن استبعد منها المنسوخ والمرفوع والمنسي. وهذه واحدة من النقاط التي يركز الجابري على أهميتها في فهمنا للقران الكريم وإعادة تأسيس علاقتنا معه باعتبارها "معاصرا لنا ومعاصر لنفسه".

4- ترتيب المصحف وترتيب النزول:

من المتفق عليه حسب الجابري ان ترتيب السور في المصحف هو الترتيب الذي وضعته "اللجنة" التي كلفها عثمان بجمع القران. ولا احد يعرف ما هي المعايير التي جعلت اللجنة تجعل الفاتحة السورة الأولى وسورة الناس السورة الأخيرة. ولهذا يقترح الجابري ترتيبا يساعد على فهم القران أكثر هو الترتيب حسب النزول.

والنقطة التي يركز عليها الجابري ان القران كتاب مفتوح يتألف من سلسلة سور مستقلة عن بعضها البعض. كما أن الآيات داخل كل سورة منفصلة عن بعضها ومرتبطة بأسباب نزول مختلفة، وتتجاور في السورة الواحدة آيات مكية مع آيات مدنية، وقد تفصل بين آيتين متتابعتين سنوات طويلة في ترتيب النزول. وبناء على ذلك من غير الممكن التعامل مع القران كنص معماري مهيكل وإنما هو نص من نتاج الوحي لا من إنتاج المنطق. هذا لا يعني انه يمكننا إعادة ترتيب الآيات داخل السور لان العلماء اجمعوا ان ترتيب الآيات "توقيفي" اما ترتيب السور فهو اجتهادي.

وبما ان القران كان ينزل حسب الوقائع والمستجدات فان الترتيب التاريخي للسور حسب النزول يساعد أكثر في توضيح طريقة التأثير والتأثر بين القران والبيئة التي نزل فيها ويبين لنا كيف تطورت الدعوة المحمدية بناء على آيات وسور القران وتطورها التاريخي.

5- القصص القراني نوع من ضرب المثل:

ثار جدل كبير حول القصص القرآني منذ معركة طه حسين في كتاب "في الشعر الجاهلي" والمعركة الأكبر التي أثارها كتاب"الفن القصصي للقران الكريم" لمحمد احمد خلف الله. والجابري يركز على القصص القرآني لأنه مرآة ترى الدعوة المحمدية فيها نفسها عن طريق مقارنتها بتاريخ الأنبياء والرسل. كما أن القصص القرآني مكون أساسي من مكونات مسار الكون والتكوين للقران الكريم.

ويرى الجابري أن القصص القرآني نوع من ضرب المثل. فكما يضرب القران المثل برجلين أو جنتين دون تحديد وكما يجري حوارا بين أصحاب الجنة وأصحاب النار والقيامة لم تقم بعد، فكذلك الشأن في قصص الأنبياء فهي للذكر والموعظة. وصحة القصة القرآنية ليس في مطابقتها للوقائع التاريخية ولكن في إيصالها للمغزى المطلوب منها. وبالتالي فقصص وحوادث الأنبياء والمرسلين في القران متطابقة مع أحداث التاريخ ولكن أحداث "التاريخ المقدس".

وكل ما ذكره القران من قصص هو إسقاط على أحداث معاصرة للنبي وردود على معاركه مع المشركين او اليهود والنصارى أو المنافقين، وهذا هو الهدف منها: استشراف مستقبل الدعوة عن طريق مقارنتها بماضي الدعوات السابقة وماضي الأنبياء السابقين.

6- العلاقة الحميمة بين محمد بن عبد الله والقران الكريم:

ان الهدف الرئيسي للجابري في كتابة "مدخل الى القران الكريم" هو التأسيس للتعامل العقلي مع القران والتخلص من الوهم الذي يرى ان فهم الدين وفهم القران يقع خارج العقل. وينهي الجابري الكتاب بتساؤل اخير يقبع معناه العميق بين السطور. يقول في السطور الاخيرة للكتاب: " وعلى أن اعترف الآن أن هناك سرا لم يستطع عقلي اكتناه حقيقته: انه هذا الذي عبرنا عنه ب"العلاقة الحميمة" بين الرسول محمد بن عبد الله وبين القران الحكيم". فكل آيات القران مرتبطة بأحداث وقعت للرسول أو تحديات واجهها او مواقف صعبة وجد نفسه إزاءها. هذه العلاقة الحميمة هي موضوع الأجزاء الثلاثة المتبقية من تفسير الجابري للقران الحكيم.

"مدخل إلى القران الكريم" كتاب هام وإشكالي ، أثار الكثير من المعارك وجلب لصاحبة العديد من المشاكل، وطرح العديد من القضايا الجدلية حول القران وحيا وتلقيا وجمعا وتفسيرا. كما انه كتاب تحد واستفزاز للقدرات العقلية لكل من يقرؤه، لان الكتاب لا يكشف عن طروحاته بشكل مباشرـ إلا فيما ندرـ  ولكنه يخفيها ويموهها ويزرعها زرعا بين السطور.

لكن السؤال الأهم هنا هل طرح الجابري كل الإشكالات المطلوبة ل"إعادة التعريف" بالقران الكريم أم انه تجنب قضايا ربما كانت أكثر أهمية من كثير مما ناقشه الكتاب؟

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!