ديمقراطية المعرفة

حسين الوادعي
الثلاثاء ، ٢٥ اكتوبر ٢٠٢٢ الساعة ٠٧:٠٢ صباحاً
مشاركة |

نتائج العلم الحديث هي أحلام السحر قديما..

 البساط الطائر والمرآة التي تخبر بالغيب، والجني الذي يجلب العجائب من آخر الدنيا..

كل هذه صارت حقائق يومية لنتائج العلم والعقل والاختراع.

كان حلم الخلود مرتبطا بحلم المعرفة الشاملة، أن تعيش طويلا لتعرف كل شيء.

قديما كان القادة والحكماء والناس يحلمون بالقدرة على معرفة الإجابات عن كل الأسئلة..جلب الملوك الأقوياء أشهر الفلاسفة والكتاب والمؤرخين إلى بلاطهم ليسألوهم عن بلاد لا تغيب فيها الشمس، أو عن علاج لمرض مستعصٍ، أو عن حل لمشكلة عقلية او أخلاقية مستعصية.

كانت المعرفة محدودة،  والإجابات على قدر الحال.

اليوم يستطيع "جوجل" تقديم كل الإجابات لكل أنواع الأسئلة في ثوانٍ معدودة لكل إنسان على هذه الأرض يملك جوالاً رخيصاً وارتباطاً بالانترنت.

تستطيع إختصار سنوات من البحث في ساعة أو ساعتين وأنت تبحث عن موضوع ما من كل جوانبه. 

كان الحكيم القديم يخدع الملك ويقدم له إجابة خاطئة او مضللة أو متحيزة. لكن محركات البحث اليوم تقدم لك كل الإجابات وكل وجهات النظر وأنت مستلق على فراشك... ما عليك إلا أن تقرأ بعقل منفتح وتصل إلى الاجابة المطلوبة.

لا تقدم لك المعرفة المرتبطة بالانترنت اليوم المعرفة الشاملة فقط حول أدق المسائل وأعقدها، بل تساعدك على التنبؤ بالمستقبل. 

تستطيع البيانات العملاقة big data تحليل كل المدخلات والآراء وردود الفعل حول موضوع معين او مشكلة او مرض وتقدم لك توقعا دقيقا حول ما يمكن ان يحدث.

لكن الثورة أعمق بكثير..

كان إنتاج المعرفة حكرا على حفنة من الاختصاصيين المكرسين الذين يمتلكون مفاتيح النشر ويسيطرون على اتجاهات المعرفة. لكن الثورة المعرفية التي تقدمها ثورة الاتصالات اليوم تجعل كل شخص يستطيع القراءة والكتابة الحق في إنتاج المعرفة.

إن wikipedia ليست إلا مرحلة أولى في المسيرة التي ستجعل إنتاج المعرفة حقا للجميع. مع كل ما تحملها هذه القدرة من مخاطر وضع معلومات خاطئة او مضللة، إلا انها تصحح نفسها وتطور آليات لتدقيق المضمون وتصحيحه.

كنت أتابع قبل فترة تجربة موقع Qoura ، وهو موقع مهمته بسيطة: تدخل وتسأل أي سؤال يخطر على بالك،  ثم يدخل المشتركون ليضعوا إجاباتهم على السؤال. قد تحصل على 10 إجابات او على 10000 إجابة من متخصصين ومهتمين وناس عاديين، وتستطيع التنقل بين الإجابات وتمحيصها واختيار ما تراه الأفضل.

لا بد بالطبع أن تكون ذكيا وتقرأ الإجابات بعقلية ناقدة حتى لا تتعرض للتضليل، لكن كمية المداخلات تساعد على تقريب الاجابة الصحيحة وإبراز الاجابات الأقرب الى الصحة.

ها هي "ديمقراطية المعرفة" تتحقق وتنقل مطلب "المساواة" الى آفاق جديدة. مساواة قائمة على المعرفة، مهما كانت بسيطة، لا على الوضع الأكاديمي أو السلطة أو العلاقات.

لو قارنت الوضع قبل 1997، وهو تاريخ دخول الإنترنت الإستخدام الشعبي، لقلت انها نقلة اكثر أهمية من اختراع الكتابة قبل 3000 اختراع الطباعة قبل 500 عام. 

انها نقلة آلاف السنين في لحظة بسيطة. 

كنا قبل ذلك العام محصورين فيما قد نجده من معرفة في كتاب قديم هنا أو مجلة هناك، وكنا نعتبر نفسنا محظوظين لو عثرنا على فقرة او صفحة حول الموضوع الذي نبحثه. 

أما اليوم فاستطيع العثور على مليون نتيحة حول موضوع البحث الواحد خلال ثانية.

لكننا لم نعد متلقين للمعرفة فقط،  فنحن نساهم وننتج وننشر مجانا ويقرؤنا ناس لا نعرفهم.

إنها ثورة في الاستقبال المعرفي وثورة في الإرسال المعرفي. 

آفاق مفتوحة بكل ايجابياتها وسلبياتها.. فهذه الشبكة العنكبوتية منتدى كوني ضخم للمعرفة.. معرفة يساهم فيها الجميع للمرة الأولى في تاريخ المعرفة البشرية التي لا حدود لها.

لكن .. هل يمكن ان تساهم في هذه المعرفة وأنت محمل بقيود "لا تسأل" ،"لا تجادل" ، "الشيخ او الزعيم يعرف كل شيء"؟!

لم تكن فرصة تكوين المعرفة دون قيود أو عوائق متاحة مثلما هي اليوم... الفرصة المتاحة لا تعني انك تستفيد منها إلا إذا اقتنعت فعلا أنك تستطيع التفكير والنقاش ورفض الإجابات المحفوظة وتقبل الإجابات الجديدة .

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!