ماالذي تفعله بي يا ليل الدنوة؟

محمود ياسين
الاثنين ، ٠٢ أغسطس ٢٠٢١ الساعة ٠٢:١٢ صباحاً
مشاركة |

أغصان قمم الساج تتلاطم مثل موج دفعته الريح القادمة من كهوف الأبدية.

هكذا اقرفص في الزاوية من ركن في بيتنا وكأنني طفل معاقب بانتظار " ابو كلبة" .له ذيل وأسنان مدببة ، إنه وحش اطفال العالم ، اسمه " البعبع " في أوروبا ، والنداهة في صعيد مصر ، ورجل الجليد في أمريكا ، إنه عقوبة الأساطير والظلمات بينما تزمجر ريح الليل في أزقة القرية  وجدته في حكاية ريمي وقد تقمص شخصية السيد فيتالس في الحلقات الأولى لكنه مالبث أن تحول لأب رحيم لطفل يتيم كان يعزف على الناي ، ولقد ترك له كلب وقرد وقيثارة وقبعة ، تاركا صوته المبحوح يدفع ريمي صوب مواجهة مصيره " هذا العالم قاس ياريمي " . 

ابو كلبة متمسك عندنا بذيله ومخالبه ، ذلك أننا لم نحظى بكاتب سيناريو يحيل الخوف لمشهد من دراما إنسانية قد تخرج الوحش من قلب طفل يقرفص في الزاوية .

ريح ليل الدنوة كأنما ارتجلته قوة غامضة ونزقة تتمتع بذلك القدر من سخاء الأساطير ونزوعها للعبث .

أتحدث من تحت نافذة صاحب الدكان وهو لا يدري ما إن كنت أنا حقا من يبحث عن سجائر أم أن ابو كلبة قد تقمص شخصية صحفي عاد إلى قريته بحثا عن الريح ، كان وجلا ويتحدث عن أضرار التدخين وكأنه يحاول التملص ومغافلة وحش ما ربما تتبين إنسانيته بعد العاصفة .

البحث عن سجائر هي حيلة ما لمغادرة هواجس ليل القرية ، وكأنك فحسب ترتجل سببا لمواجهة مخاوفك في الأزقة . 

في أزقة الدنوة في الليل : أنت الإرادة العليا وحدك ، وأنت الساهر على بساطة النوم القروي وهو يغط في التوكل ، وأنت ريمي المنتزع من مسلسل كارتوني وقد منحته الدنوة وجودا ثقيلا متوجسا على ضريح السيد فيتالس بينما تعزف كلابك رقصة ما لحياة متجولة لا تنشد ابهار أحد .

أنت في الريح واصطكاك النوافذ الوريث الوحيد لكل العشاق وقطاع الطرق ومقطوعي الرؤوس .

انت أبو كلبة وقد كتب روايتين ، وأنت الفقيه سعيد وقد قرأ كتاب " نهاية التاريخ " .

أنا في مركز العواصف ، في قلب الدوامة ، والدنوة نائمة في مركز الريح التي لا تنام .

وفي ليال كهذه لخيالك المتوحد أن يتصور ماالذي يحدث خلف النوافذ الحاذقة الحارسة ، والأنفاس المتلاحقة خلفها في الزوايا حيث توقظ الريح الشبق  القروي وغلمة الملامسات الوجلة .

القمر تشطر مدار مأذنة جامع الدنوة وثمة امرأة منتزعة من الأمل الواهن ترقص مثل سحابة مرت من جوار المأذنة على إيقاع :  لمابدا يتثنى .

صوت محمود درويش للمتوحد رفقته مثل تعويض للوحدة بالفن :

كلاب على قمر مر من فوق برج الكنيسة .

هذا بيت احمد ابو بكر ، لقد مات ، لكنه يطل من نافذته متسائلا : مومعاكم لذلحين ياجن ؟ 

هذا بيت علي الحاج ، إنه نائم الآن وإلى جواره نسخة من مجلد البداية والنهاية أو الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، على الصفحة التي : وزائرتي كأن بها حياء ، فليس تزور إلا في الظلام 

هنا كنت أقف مغارب التسعينات بغرور طالب ثانوية عامة لابس جينز وفنيلة نصف كم ويعتقد نفسه دونجوان قرويات العالم ، وهنا أيضا وقعت على وجهي أثناء تأدية خدمة التدريس الإلزامي وضحكت مني عجوز ماتت بعدها بسنوات وبقيت ضحكتها مثل حالة تندر من العالم الآخر ، وهاانا الآن حيث احببت وغنيت وحلمت واختبأت ، أقف لا يمكنني الجزم ما إن كنت الطالب ام الكاتب ام البهلول أو أنني أبو كلبة وقد انتزع كبد الوحش الساذج وخلس وجهه أثناء نومه ليرتديه بحثا عن طريقة للخلاص من مخاوف طفولته .

لتتخلص من الوحش عليك تقمص شخصيته أحيانا ، 

أنت فحسب تطلين من كل نافذة 

أنت الطريقة الوحيدة لأكون أنا 

أخبرني ياكلب الدنوة : من أين تأتي بكل هذا التشرد النبيل ،  اخبرني : كيف تسقطني الحسابات وكيف أتلاشى كلما فكرت واتبعت الحذاقة

كيف أنني لا أتواجد إلا رفقتك ، كيف أفقدني في كل محاولة وكيف لا أجد انضباطي الا بوصفي مختلا ، مختلا يرقص بعد منتصف الليل في مجران قريته ، ويتجنب فقط : أضاعوني وأي فتى أضاعوا.

وأسأل : ماالذي تفعله يا محمود ؟ أصدقاؤك في أوروبا ، يسهرون ويدخنون الهافانا في المنتديات ومترو الأنفاق ، لديهم دنيا لا تخلو من رومانسية ومباهج المنفى وماذا لديك أنت ؟ كلب وقمر ومأذنة جد قديم ،  وصوت من كل صوت من روما ومن يافا ومن شمال العراق تنتهي لحزمة واحدة من رثاء الناشبين مخالبهم في التراب . 

لا راتب لديك ولا جهة ، لا شيئ غير هذا الصلف القروي في محاكمة زملائك بتهمة الهرب بحثا عن حياة لائقة وكأن الشرف هو العناء  توقف عن تقمص هذا النبي الشهيد ، 

لقد سئموا من منافيهم كل هذا الاستعراض الوطني على حساب اضطراراتهم ، والحوثيون من جانبهم لايثقون بك ،يعتقدونك مضمرا شيئا من ميراث جدك ، وطموحاته " اللامشروعة " 

يراك الجميع ظلك ، مالست أنت ، لكن : أين تهرب من ظلك ؟  بقدر حاجتهم لإنسانياتك " الساذجة " .

وبقيت أنت وأنت وأنت الذي كنت والكلب وأسنانك المصطكة على همهمة الشاعر أحمد العواضي كأنه يرثيك أنت وحدك :

على مضض كان يحيى 

يقطف القات 

ثم يحدث أقرانه عن هواه 

البلاد التي 

الفتاة التي 

وبكى 

يقال بالنسبة لي وحدي ، أن الهذيان المتوحد في الظلام والصقيع هو شكل من الجسارة على ملامسة سحرية الكون ، السحرية في كونك حالة استدعاء لكل الأساطير ، تجتذبها بجسارة من أمريكا اللاتينية ومن أقاصي أوروبا ومن قلب أفريقيا إلى الدنوة ، من تميمة نهاية العائلة في رواية " مائة عام من العزلة " ومن قهقهات الشيطان في " المعلم ومارغريتا" ومن الباراسيكلوجيا ومطارحات الفلسفة ضد الخرافة ومن انتصار الخرافة ومن تاريخك العاطفي الشخصي للغاية.

وكأنك شمس المعارف ، تميمة الغرابة والهذيان مستلق في المجران بينما تتصفحك الريح القادمة من كهوف الأبدية .

تطلين اللحظة ، عينان واسعتان وقلب لا يكف عن كونه لي ، أستعيد اناي بحضورك ، بينما تبحث أزقة الدنوة عن سبب آخر وقد وجدت طريقي إلى البيت ، بينما تبحث القرية عن وحش متخيل تؤججه الريح .

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!