مأرب.. ذاكرة الصرامة العريقة

محمود ياسين
الخميس ، ٢٧ اكتوبر ٢٠٢٢ الساعة ٠٢:١٣ صباحاً
مشاركة |

لمأرب إيقاع أصالة قلقة، ونكهة صرامة تتحفز عبر آلاف السنين في انتظار كارثة.

وبين مكرب "سبأ" وشيخ "عبيدة" تاريخ عنيف وكثيف على هيئة حروب وكوارث وجنات تحترق شوقاً ورعباً إزاء سيل سيئ المزاج.

إنها مأرب: سفر التاريخ وقصص الكتب المقدسة.. القبيلة التي تقف بين زحف الدولة وزحف الصحراء، ترفض نزع السلاح، وتحاول استثمار النفط والخراب القديم.

تعاقب عليها المكاربة والمشائخ والرحالة والمستشرقون والشركات والصحف، وجميعهم حاول اكتشاف العراقة المتراكمة الدفينة من خوذة المكرب "سمه-علي-ينوف" وحتى "عسيب" الشيخ مبخوت العرادة.

بمجرد أن يقال: مأرب.. كان خيالي يرسم مأرب على هيئة كهل عملاق وعنيد يخترق السحاب بجنبيته الصدئة.. في عينيه نظرة ترحيب وتحذير، وعلى كتفه تتحفز بندقية الجرمل المدهونة بالزيت.

وبين قدميه يتدفق النفط والماء على أطلال معبد وذكريات سد قديم.

أكثر من 200 كليومتر إلى الشمال الشرقي من صنعاء، وعلى تخوم الربع الخالي كانت مأرب تنتظر.

ساعة من السير العادي على سيارة سبعينية عريقة اخترقت جبلاً قاسياً، وأطلت بنا على سهل مفتوح، وهناك مأرب قابعة بين السهل والصحراء العظيمة.

لا شيء غير القيظ والقحط في سهل قاحل يتوسطه جبل هيلان، وبعدها تبدأ محافظة مأرب.

نقاط عسكرية وملل جنود يشعرون بالظمأ والتوق إلى غصن قات، غير أنهم لم يعودوا قادرين على مضغ القات بالملابس العسكرية.

ليل العسكري

ثكنات مفزعة يطلقون عليها "دشم".. ثمة 3 فتيان من مناطق مختلفة من اليمن، قاسمونا السيارة العتيقة، وحدثونا حديث الجندية في هذه الأرض القاسية.. عن الحر والقر والوحشة والراتب الضئيل.. عن الحرمان والليل والعقارب.. وهم يرجعون السبب في منع تناول القات على العسكر، إلى ظنهم أنه وراء قلق العسكر وحالات الانهيار العصبي.. بعد القات يحصي العسكري وحشته وعجزه وحرمانه وقريته البعيدة.. أحدهم انتحر، وبعضهم انهار.. وآخر ترك "الدشمة" هائماً على وجهه في قلب الوحشة والظلام، وعند الصباح وجدوه ميتاً بعينين مفتوحتين وقد أثخنته العقارب.. "ما أقسى ليل العسكري في أرض كهذه".

لا زال الثلاثة يقصون بعضاً من حكايا الضياع والعجز، ويتحدثون عن أماكن بعيدة ليس فيها ثكنات، إلى أن وصلوا التلة الصغيرة، حيث تقبع كتيبتهم ومخاوفهم، وغادروا السيارة ممتعضين.

ها نحن نقترب من المدينة، مخترقين سهلاً أسود حد العمى.. من هنا تمر أنابيب النفط القادمة من صافر.. أنابيب وحيدة تسافر عبر صخور سوداء مدببة.. على هذه الصخور الفظة ترك الأب الضعيف بناته اليتيمات السبع إرضاءً لزوجته الشريرة.. هنا ولدت تلك الأسطورة اليمنية التي ساعدت العجائز على مقاومة ملل الأيام الأخيرة.. الأسطورة اليمنية التي ظلت تجنح بين أفواه الجدات وتنهدات الأطفال، وحافظت على عنفوانها كمسرحية تتحدى الأيام.. وانقرضت في زمن الستالايت.

مأرب الجديدة

على هذه الأرض ينفجر الأنبوب ويضيع النفط.. استقبلتنا وكأنها فرغت للتو من استقبال صاعقة..

أوقفنا زحام الناقلات التي تحمل قطع غيار ضخمة تتجه إلى حقول النفط.. الأطقم العسكرية تتزاحم على حراسة الناقلات، وعلى أبواب مأرب كان الجنود يفتشون السيارات القادمة بحثاً عن السلاح.. ظل العملاق في مخيلتي، بينما فاجأتني مأرب الجديدة بخلوها من السلاح والرجال الشعث.. مأرب مدينة عادية كشوارع، نصفها إسفلت، والنصف الآخر أتربة وزيوت وباعة متجولون.. كل المباني حديثة، إذ تم تخطيط هذه المدينة بعد اكتشاف النفط..

ستحتاج إلى غداء وقات وماء، وربما إصلاح سيارتك. سيقدم لك أهل إب هذه الخدمات باعتبارهم يسكنون مأرب الجديدة.

أسمع جملاً كهذه "كم تشته؟!، من فضلك، قات حلا... الخ".. كلمات ووجوه تذكرك بشارع العدين في إب.

لا توجد شوارع عريقة معروفة هنا، ويسمون زحام البيوت والدوائر الحكومية "المجمع"، ثم الشارع العام.

وشيئاً فشيئاً بدأ المأربيون يظهرون على شكل بدو بثياب بيضاء خليجية.. معجونة بتراب مأرب.

تعرف المأربي من شعره الطويل الكثيف، وسلاحه الذي تسلل به من طريق آخر لا يمر بنقاط التفتيش.. وجوه تقرأ فيها حرية داخلية وتحفزاً ما.. ونادراً ما تجد مأربياً يقبل السكن في هذه المدينة، لقد غادروا مدينة مأرب التاريخية المهدمة إلى الضواحي.. أما هذه الشوارع فيمرون بها مسرعين لقضاء حوائجهم، ويعودون قبل الغروب إلى بيوت الطين الفاتح، هرباً من المدينة والضجيج، تاركين مأرب الجديدة لأبناء إب وبعض من مهاجري تعز والحديدة، الذين يكوّنون مجتمعاً جديداً في طريقه إلى النمو الاقتصادي، وخلق ثقافة اجتماعية جديدة، هي مزيج من عطاء إب وكفاح تعز وصرامة مأرب.

مجتمع المدينة

استفاد هؤلاء الوافدون من جملة قناعات وأعراف راسخة في الثقافة الاجتماعية لأبناء مأرب الذين يمقتون مهنة "بياع".. وقبلهم استفادت شريحة اجتماعية مأربية تعرف باسم "القرار".. كان أبناء القرار وحتى ما بعد الثورة بقليل، يعملون في خدمة القبائل والأشراف، ويمتهنون البيع، والحلاقة والجزارة.

ومع التحولات الاقتصادية التي بدأت في أواسط السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات، حصد القرار أرباحاً وفرصاً، وتحولت أوضاعهم، وحصلوا على علاقات مع بقية الشرائح.. علاقات ليست متكافئة، لكنها أكثر إيجابية من الماضي.

إذ يتكون مجتمع مأرب من 3 شرائح رئيسية (الأشراف، القبائل، القرار). الأشراف (الهاشميون) يمتلكون ثقافتهم المحافظة التي تميل إلى التدين والعلاقات الإيجابية مع بقية الشرائح.. رغم أنهم ليسوا (هجرة) كبعض الأشر الهاشمية في اليمن، حيث إن الهجرة لا يحاربون ولا يدخلون في تعداد المحاربين الرماة.. ويحصلون على الحماية من رجال القبائل.

أما أشراف مأرب فلديهم تاريخ عريق في الدفاع عن أنفسهم، والأخذ بثأرهم، وحماية حلفائهم الضعفاء من أبناء "القرار".

الأشراف يملكون بيوت مأرب القديمة، ومعظم الأراضي الواقعة في مديرية مأرب، بما في ذلك الوادي الذي يتاخم السد.. يتزوجون من القبائل ولا يزوجونهم كعرف يقبله الجميع، بدون تذمر، باعتباره عرفاً، وليس حكماً شرعياً.

أما القبائل فيشكلون 75% من مجتمع مأرب.. وأبرز القبائل في مأرب هي عبيدة ومراد مأرب والجدعان.

هذا الكلام الممل عن الشرائح والوعي الجمعي والتحولات لا جديد فيه إلا إذا انتظرتم حتى ما قبل نهاية هذا الاستطلاع لتقرأوا بعضاً من ثقافة القبيلة من خلال لقاءات بالشيخ والشريف والفتى المتعلم وخولة بنت الأزور التي تقود الهايلوكس!

وعموماً، فمجتمع مأرب بحاجة إلى دراسة إثنوغرافية أو أنثروبولوجية، أو أي مصطلح غريب يمكن من خلاله التحايل عليكم قرائي الأعزاء.. أو تقوم دار نشر تؤمن بثقافة "الهامبرجر"، بإصدار كتاب عنوانه: "كيف تتكلم الإثنوغرافيا في ثلاثة أيام".

إذ إنني وفي 3 أيام حاولت اختزال مأرب في مصطلح هزيل، وفي تمثال خيالي صارم، لإنجاز استطلاع عن بلاد الحرية.. أقول الحرية لأنها الانطباع الحقيقي الذي عدت به من مأرب.

استقبلني الشريف مبخوت بن عبود، وضيفني بزاد وراحلة حديثة. أسرني ذلك الرجل حقاً، وحدثني بحذر عن مأرب وتاريخها وتكوينها الاجتماعي، وسألته عن سبب كراهية أبناء مأرب للمدينة والمدنية، وكنت أعلم الإجابة مسبقاً، فأَضاف الشريف مبخوت إلى معلوماتي بعض التفاصيل.. كاختيار أبناء مأرب منطقة الحصون التي تبعد بضعة كيلومترات إلى الشرق من مدينة مأرب، ملتقى وسوقاً.

لا أحد يفتش عن الأسلحة في سوق الحصون.. ليس هناك عساكر ولا ضجيج. في سوق الحصون حاولت مأرب التاريخية تجاهل مأرب الجديدة.. ثم إن الحصون سوق قديم حصل على امتيازات جديدة بفعل محاولات الدولة اقتحام هذا المجتمع العنيد.

السلام تحية

ثمة سؤال لم يجب عليه الشريف مبخوت لأنني لم أطرحه عليه أصلاً، وهو عن سبب اعتناق المأربي أسلوباً مؤلماً في السلام والمصافحة، إذ وصلت مأرب وأنا في غنى عن التفكير في طقوس التحية والمصافحة، فأنا منشغل بما يدهش، أو باختراع ما يدهش، وحين سلمت على ذلك العجوز الذي ظهر فجأة من خلف الشريف مبخوت، لم أكن أعلم أنه سيضع أنفه على أنفي ويضغط بعنف! فاجأني تماماً، وهم في العادة لا يفعلون ذلك مع الغريب (أي وضع الأنف على الأنف وتقبيل الفراغ)، وأنا الذي حاول معانقة الرجل فعانقني على طريقته الخاصة.. مع العلم أن معظم قبائل الصحراء في الجزيرة العربية تتبع ذات الأسلوب في "السلام"، من مأرب وحتى أم القوين في الإمارات العربية المتحدة، ثمة قواسم مشتركة أخرى من ضمنها التصحر والضغط بعنف على الياء في آخر الكلمة.

أمامك 4 خيارات للمأوى في مأرب؛ إما قبول دعوة الشريف للنزول في بيته، أو فندق عرش بلقيس الذي يقدم لك خدمات كثيرة من ضمنها مخالطة السواح القلائل، ومقابل ذلك يفجعك في أعز ما تملك، وهي الـ10 آلاف ريال التي وصلت بها إلى هذه المدينة، أو "لوكندة" رخيصة تكتشف فيها ثقافة الحمالين والبؤساء، وتحصل على معلومات خطيرة تصلح في دراسة مهمة عن مراحل تطور حشرات البق البيضاء والقمل الأسود، قبل النفط وبعده.

أو تقبل التنازل عن ألفي ريال في الليلة في فندق هادئ وتصميمه رائع، وغرفه نظيفة للغاية، لكنه بغير ثقافة أجنبية، فهو خالٍ تماماً من الأجانب والستلايت.. ولم يكن أمامي سوى البكاء على أطلال الألفين!

من يعنيه أمر الفنادق واللوكندات والقمل؟ إما من باب تقديم خدمة سياحية مجانية حتى لا يذهب أحدكم وفي نيته الحصول على نوم هادئ بسعر معقول.. بالإضافة إلى أنني كنت أحبذ لقاء سائح واحد على الأقل لأسأله عن سبب مجيئه، وعن انطباعاته الأولى.. أما لماذا هو سائح وحيد وقليل؟ فأنا أعرف أن الاختطافات المتكررة، وبالتحديد حادثة "أبو الحسن" التي ذهب فيها بعض السياح إلى ربهم.. هي السبب في ندرة النصارى القادمين إلى اليمن، وإلى مأرب التي تلهب خيالهم الأكاديمي.

ذرفت الألفي ريال وصعدت إلى غرفتي وحيداً حتى من الجيران.. لا تلفزيون، ولا تليفون، ولا معلومات مأربية إلى الآن، لا شيء البتة. هدوء وصمت يلف المكان لدرجة اكتشاف بعض الأمراض الخاصة كالخوف من الأماكن الصامتة، ومرض طنين الأذن.. ولأول مرة في حياتي أقف إلى جانب مشكلات الأراضي والموت لأجلها.. إذ إنه لم يمضِ أكثر من ساعتين حتى بدأ إطلاق نار متقطع ينتشلني من التحديق في السقف ببلاهة! وفي الصباح أخبروني أن المألوف سماع مثل تلك الفرقعات الليلية التي تتحول في الصباح إلى أمر عادي فيه جثث وأرقام جديدة تضاف لرصيد الثأر العريق.

الطريق إلى مأرب القديمة ليس ببعيد، وعلى سيارة الشريف مبخوت غادرت نقطة التفتيش وبرفقتي فتيان.. أحدهما من عبيدة، والثاني من الأشراف، الأول يستعد للالتحاق بالجامعة، والثاني غادر المدرسة في الصفوف الأولى، وكنت أظن العكس.. إذ إن الأشراف من بني هاشم عادة ما يرتبطون بالعلم أكثر من القبائل.

العبيدي والشريف يختلفان في الشهادة العلمية واللقب، لكنهما يتفقان تماماً على أن المجد في أفواه البنادق، لذلك لم ألاحظ فارقاً بين الاثنين.

هذه مأرب

اتجهنا جنوباً، وبدأ السلاح المأربي يتكثف أكثر وأكثر.. بيوت تتناثر هنا وهناك، مبنية من الطين الفاتح الذي امتص أشعة الشمس واحتفظ بها.

مزارع البرتقال، والقمح، تمتد على جانبي الطريق الجميل.. وأمام أطلال المدينة التي تشبه قرية كبيرة، وقفت السيارة، وقال أحدهما: "هذه مأرب".. بيوت مهدمة بعضها يقف كنصف بيت، والآخر يكاد يساوي التراب.. ثمة بيوت قليلة لا تزال تقاوم الريح، وفيها أناس من إب أو من مأرب ذاتها، يعيشون في قلب التاريخ والخراب.

هذه الأطلال تتراكم على ربوة كبيرة، ويفسر أبناء مأرب وجود الربوة في سهل بلا روابٍ، في أن هذه المدينة الصغيرة جداً الخربة جداً، قد بنيت وتهدمت وبنيت وتهدمت.. وهكذا تراكم الخراب على الخراب! فنشأت ربوة استثنائية على ظهرها تصفر الرياح بين جدران الخراب الأخير.

وإلى الأسفل من الربوة يقبع "مسجد سليمان". التسمية جاءت من علاقة النبي سليمان بالملكة بلقيس، كما ذكر القرآن الكريم. المسجد عبارة عن جدران نصف مهدمة، وأعمدة بيضاء ضخمة، على أسفلها نقوش وكتابات قديمة.. لا يزال السقف متماسكاً، ولا تزال مأرب تاريخاً طويلاً انتهى إلى أطلال ونقوش ونفط وقبائل وسد جديد قبل أن تصل إليه عليك استرجاع الزمن إلى القرن الثامن قبل الميلاد عندما بدأ المكاربة السبئيون الظهور في عاصمتهم صرواح، التي لم أذهب إليها عملاً بنصيحة مأربي يخاف على رأسي أن يذهب في صراع صرواحي قبلي!

بنى المكاربة معابد لإلههم "ألمقة"، وبنوا سدوداً انتهت إلى طموح سد مأرب التاريخي.

ترتب على السد ثمار ونشاط ورخاء، فبدأت مدينة مأرب تحتل أهمية صرواح.. بالإضافة إلى تزايد أرباح تجارة اللبان في الجزيرة العربية، التي أضافت إلى مأرب إغراءً جديداً، فهي أفضل من صرواح، لوقوعها على طريق القوافل كمحطة رئيسية في طريق اللبان الشهير القادم من الجنوب والجنوب الشرقي مروراً بمأرب وانتهاءً بأسواق غزة في فلسطين. وهكذا تراجعت صرواح، وتنامت مأرب، وبنى المكاربة حولها الأسوار المنيعة التي لا تزال بقاياها قاتمة إلى الآن، إما في مكانها أو كجزء من جدران بيت مأربي لا يرى فارقاً بين حجر يعود تاريخه إلى سنوات، وحجر آخر منقوش ونحت قبل ألفين وخمسمائة سنة، مكتوب عليه اسم المكرب الذي أمر بنحته.. أحد هذه الأحجار يئن تحت وطأة روث الأبقار، لأنه أصبح جزءاً من حظيرة!

رائحة النبل

النقوش والتاريخ والخراب والزمن وأشياء أخرى تضغط على رأسي وأنا أغادر مسجد سليمان، متسائلاً عن الفارق بين اهتمامات الأوروبيين واهتماماتي.. أين هي وزارة الثقافة والسياحة من هذا كله؟ ترى: أي فضول علمي وأمانة تاريخية وروح تحدٍّ دفعت بجلازر، وهاليفي وأرنو، ليلاقوا احتمالات الموت في مأرب مقابل طلاسم التاريخ وتعنت الجغرافيا؟!

وباتجاه الغرب نحو أطلال سد.. وتدفق سد.. كانت المزارع والبيد تختلط ببعضها، وتمتد على جانبي الطريق.. وجوه عربية في تقاسيمها إباء وترحيب متعال..

مساحات تغريك بالركض والرفض.. أفق يعبق بالحرية، وأخلاق الفرسان..

الأرض، والإنسان، والأطلال، والرمال الصفراء.. كل شيء يغريك بالجسارة والتفاؤل.. وعلى صحراء قلبي وبين نافذة السيارة والأفق البعيد، مر تأبط شراً والشنفرى والسليك وعروة بن الورد.. إنني أسمع وقع حوافر خيلهم، وأشم رائحة العرق النبيل.. مروا وأثاروا خلفهم مشروع تمرد ومشروعية صعلكة.

هذه هي أطلال سد مأرب إذن.. يبدو الصرف الجنوبي للسد وكأنه بيت قديم (هذا إذا نظرت إليه من بعيد)، أما إذا اقتربت فسترى القوة والذكاء في تفاصيل هذه الجدران، حيث تتماسك الأحجار العملاقة من خلال القضبان الحديدية. ومن خلال الصرف الجنوبي كانت مياه السد تتدفق في الأراضي التي تصحّرت الآن، رغم وجود السد الجديد.. (الرجيمات- حجر صوانة- وادي إذنة).

ثمة أسطورة تختبئ في مدخل الهوس الأيمن من السد، وبالتحديد في "مربط القط". تقول الأسطورة إن المكرب السبئي أمر بربط قط عملاق في هذا المكان، لإخافة الفأر الذي رآه الكهنة يقرض أعمدة السد، ويحوله إلى كارثة.. وانتظر القط لسنوات مملة.. حتى جاء الفأر الشرير مرتدياً فروة حمراء ضللت القط، فلم يتمكن من معرفته. وانتهت الحكاية بالغرق والشتات...

ركض الناس شرقاً وغرباً، وتحولوا إلى مثل عربي عريق "تفرقت أيدي سبأ"، وظل اسم باني السد مجهولاً حتى جاء المستشرق الألماني "آرنو" في أواخر القرن الـ19، ومن خلال قراءته لأحد النقوش السبئية، أكد أن المكرب السبئي "سمه علي ينوف"، هو الذي بنى السد في مراحله الأولى.

لقد بُني السد وانهار أكثر من مرة، كان آخرها على يد أبرهة الحبشي.

ولا يزال المأربي ينتظر الخراب الأخير.. وكأنه يسكن على ضفاف بركان أصيل، وعندما يرتفع منسوب الماء في السد الجديد، فلا يجد أبناء مأرب سوى تهنئة بعضهم البعض، قائلين: "سيحملك السيل في رحلة إلى عمان بدون فيزا".

بني السد الجديد إلى الأعلى قليلاً من أطلال السد القديم، على نفقة الشيخ زايد بن سلطان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.. وعندما تراه لأول مرة ستشعر بالرهبة، فأنت تقف عند قدمي سيل عظيم يحتدم خلف الحاجز.. يقول الشاعر الشيخ محمد أحمد منصور:

قل للذين تشردوا وتغربوا..

عودوا فإن السد حي باقِ

قد قام متكئاً على أطلاله...

وأطل مرفوعاً على الأعناقِ

فكأنه الأهرام إلا أنه..

بحرٌ يموج بمائه الرقراقِ

بالفعل.. السد يشبه الأهرام، إلا أن الذين تشردوا وتغربوا لن يعودوا أبداً..

وما حققه السد الجديد ليس كثيراً.. مقارنة بما كان ينتظره الجميع، إذ يشكو الناس من الإدارة السيئة، واحتجاز المياه لمدة طويلة.. والأهم من ذلك عدم شق القنوات التحويلية لعدة أسباب.. منها إهمال الجهات المختصة، ورفض بعض أبناء القبائل مرور القنوات عبر أراضيهم، غير أنهم وافقوا بعد فوات الأوان..

وقد يذهب بعضهم لدرجة التأكيد بأن السد الجديد سبب التصحر في المناطق التي كان من المفترض تحويلها إلى جنات.. ويؤكدون أن الأرض كانت أكثر اخضراراً مما هي عليه الآن، ومن هؤلاء الشيخ مبخوت بن علي العرادة.

ويعد الشيخ العرادة من أبرز مشائخ مأرب، وهو ينتمي إلى قبيلة عبيدة الشهيرة، وهو يرى أن قانون القبيلة لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهو أكثر فاعلية من محاكم الدولة ودهاليزها. وأسهب الشيخ في الحديث عن قانون العيب وحرمة الدم؛ إذ لا يجوز قتل الضيف الآمن والحليف، ومن بينك وبينه صلح.. كما يحرم العرف القبلي، قتل الرجل في السوق، أو إذا كان بصحبة امرأة.. يمر قاتل أبيك أمام عينيك، فلا تتعرض له بسوء، لأنه يسير مع زوجته أو ابنته، حتى وإن كانت طفلة.

أما الذي يقطع السبيل، ويفجر أنابيب النفط، ويحتجز القاطرات، فيقول عنه الشيخ إنه متمرد على القبيلة، وعلى العرف، وعلى النفط.. ويضيف: "يعدهم رجال الدولة بالوظائف والمال، ثم يخلون بوعودهم، فيلجأ هؤلاء إلى تفجير الأنبوب".

أما عن حزبية القبيلة، فيختصرها الشيخ قائلاً: "القبيلي مع صاحبه ولو تيهود".

خولة بنت الأزور

هناك امرأتان من مأرب: الأولى بملء القلب وأصالة الذاكرة، حكمت قومها عن طريق "ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون".. بلقيس في وجدان اليمني تعني الإباء الملكي الجميل.

وقصة امرأة ملكت وشاورت وكشفت عن ساقيها، و"أسلمت مع سليمان لله رب العالمين".. إذ لا قبيلي يحاول التملص من بلقيس ذاكرة وتجربة وأنثى، غير أنه يمتعض أمام ذكرى الصرح الممرد والساق الملكية المكشوفة والحائرة، وقد يحارب إذا ما أصر الأشقاء الفراعنة على سرقة ملكته بلقيس، وتحويلها إلى ملكة فرعونية اسمها حتشبسوت!

أما الثانية فهي فتاة مرقت من جوارنا وهي تقود الهايلوكس المصقولة، وكأنها خولة بنت الأزور، تمتطي ظهر مهرة بيضاء جلبها الفاتحون من بلاد الفرنجة!

مرت إلى جوارنا شامخة لم تلتفت.. إذا دارت بك الأيام وساء طالعك، وزرت مأرب، فربما ترى هذه الفتاة.. أنصحك بعدم الذهاب بعيداً، والتفكير بطريقة غير أخلاقية، فالكلاشينكوف إلى جوارها مصقول ومتحفز، وسيحولك رصاص خولة إلى غربال؟!

تجارة النقوش

كنت مشغولاً بمحاولة تفكيك التاريخ وإعادة تركيبه، والخروج بتفسير لأرتال الأحداث التي تراكمت عبر أكثر من 3000 سنة، ومطلوب فعل ذلك كله خلال 3 أيام.

تحدث القرآن الكريم عن سبأ وسيل العرم، وتحدث المؤرخون العرب عن مأرب بما يشبه المقالات.. إذ لا نقوش قرئت، ولا حفريات أخضعت للدراسة، كما جاء في "الإكليل" مثلاً.

وربما تكون محاولات آرنو وهاليفي وجلازر والدكتور فخري وفون فيسمن وجام والبعثة الأمريكية، من خلال فك رموز بعض النقوش، هو الممكن الوحيد لقراءة تاريخ مأرب عن طريق تتبع تاريخ الدولة السبئية في مأرب.

غير أن النقوش التي تمكن العلماء من قراءتها بعد العثور عليها، ومحاولة ترميم أجزائها، لم تفِ بالغرض.. إذ إن موطن السبئيين الأصل ظل إلى الآن محل خلاف وغموض، ومراحل تطور الدولة وتاريخها يعانيان من فجوات، وهناك أيضاً علاقة حضارة سبأ بالحضارات الأخرى كالآشورية والرومانية، كما جاء في بعض كتابات تعود إلى هاتين الحضارتين.

"الحروب والزمن وتجارة النقوش" بعض من أسباب تلك الفجوات في التاريخ السبئي.. بالإضافة إلى عدم اهتمام السبئيين بتدوين التاريخ على النقوش.. ظل المأربي وحتى ما قبل ثورة 1962 بقليل، يغادر مأرب بحمل جمل من النقوش والآثار إلى صنعاء أو عدن، ويعود حاملاً القاز والسلاح والثياب والطعام.. بعضهم كان يلجأ إلى تفتيت النقش كي يبيع كل جزء على حدة.

يقول الدكتور فرتزهومل: "إن السبئيين بدأوا تاريخهم الحقيقي خارج اليمن"، ويقترح و. ف. ألبرايت العام 1200 ق.م تاريخاً لهجرتهم إلى مأرب.

ولعل نقش النصر الذي أشار إليه "أرنو"، وكان يقوم في معبد "ألمقة" الكبير بصرواح، هو الذي أضاء أمام الباحثين والعلماء الطريق إلى معرفة بعض من تاريخ سبأ.

وفي العام 1947 قام الدكتور فخري، عند زيارته لليمن، بتصوير النقش ونسخه، ولاحظ أن أحد جانبي النقش كان يقع داخل حظيرة للمواشي، والجانب الآخر وسط المكان ومعرض لعبث الناس. ويرجع المؤرخ محمد عبدالقادر بافقيه، في كتابه "تاريخ اليمن القديم"، أهمية النقش إلى أنه أقدم نص طويل يصل إلينا، ويحفظ لنا أسماء مناطق كثيرة، ويعيننا على تكوين صورة واضحة عن الوضع في المنطقة من القرن الخامس قبل الميلاد.

يتحدث نقش النصر عن المكرب "كرب إل وتر" الذي أصبح ملكاً بأمر الآلهة التي أوحت إليه بملكه لـ"ألمقة" وسبأ، يوم أن وحدت الشعب، وبعدد ما تقرب به إلى عشتر، وإلى "هوبس"، ثم يشكر الآلهة التي جاءت بالمطر، ويصف الأعمال الزراعية التي قام بها.

وينتهي النقش بوصف الحملات والحروب التي خاضها الملك ضد المعافر وأوسان ودهسم... الخ، وفيه تسجيل لأرقام الأسرى والغنائم التي ترتبت على حروب الملك مع بقية اليمن.

ومن خلال النقش يخلص بافقيه إلى عدة مسلمات، منها تمتع ذلك الملك بالسلطتين الدينية والزمنية، والخراب الذي لحق بالأرض والإنسان من جراء تلك الحروب، وسيادة العقلية الإقطاعية عند ذلك الملك.

تمتع السبئيون بملك شبه مطلق على أرض غنية خصبة، فازدهرت الحياة في مأرب وفي بقية الأراضي التي كانت تقع ضمن حدود دولتهم التي تمر عبر أراضيها قوافل البخور واللبان والمر.. نظام ملكي إقطاعي يقوم على السلطة المخولة من الآلهة، وتحفظ بقوة "قبيلة" الملك، كما جاء في نقش آخر يتحدث عن إصلاح الملك لمسايل المياه حول "تمنع"، وإعطائه لـ"ولدعم" كل مدنهم، لأنهم حالفوا ألمقة والملك وسبأ.

وفي العام 34ق.م حاول الرومان غزو مأرب بقيادة إليوس جالوس، وتعاون معهم الأنباط في ذلك، وفشلت الحملة الرومانية بعد قتال مرير دام 6 أشهر.

ليس هناك ما هو أسوأ من 3000 سنة عليك ابتلاعها وتحويلها إلى ركن من أركان "استطلاع"، وعليه ينبغي زيارة عرش بلقيس والنظر إليه من خلف الأسلاك الشائكة التي وضعوها لمجرد منعي من سرقة الأعمدة المهيبة، وفلسفتها، والبحث عن نقش لن أفهم منه شيئاً، لأنني لست باحثاً، ولأنه لم يعد هنا ما يمكن قراءته في هذا المكان.

أما معبد الشمس فثمانية أعمدة تحاول الرمال ابتلاعها أمام عيني صحفي يحدق من خلف الأسلاك، ويتساءل عن سبب لتسمية المعبد بـ"ألمقة"؟! وألمقة ترمز للقمر، مع أنه معبد الشمس.

تركت العرش والمعبد، ومررت بمعاصر زيت السمسم، وتعاطفت مع الجمل الذي يدور وعيناه معصوبتان، لأنني أشبهه في الدوران القسري واللانهائي! وانتزعني من ذلك كله وجه الشيخ علي بن ناجي الصلاحي، أحد مشائخ قبيلة مراد التي يطلق عليها أبناء مأرب وصف "حجرية مأرب"، لأنهم الأكثر علاقة بالوظيفة العامة والسياسية والتعليم، مثل حجرية تعز.

حدثني الشيخ الصلاحي عن دور مراد في الدفاع عن الثورة والجمهورية، وعن علاقة الريبة والشك بين الدولة ومراد، وعن مأرب التاريخ والإنسان. والشيخ الصلاحي مثقف حقيقي، عرفته من خلال حوار قصير، وعرفت في الأخير أنك ستفشل في معرفة مأرب ما لم تنفذ تعليماتي بدقة:

قف بين مأرب الجديدة ومأرب القديمة، بعد نقطة التفتيش بقليل، ضع على ظهرك جهاز طيران يشبه ذلك الجهاز الذي يستخدمه أبطال أفلام الخيال العلمي، ظهرك إلى الشرق ووجهك إلى الغرب، أنت الآن معلق في فضاء مديرية مأرب، أغمض عينيك واسترجع 3000 سنة متخمة بالحروب والمطاردة وانهيارات السد المتلاحقة، وفي خيالك ستهاجر النقوش بطريقة غير شرعية، وستلمح هاليفي وأرنو وجلازر وبقية المستشرقين، وهم يعانون في فك طلاسم التاريخ السبئي.. تداخلت في ذاكرتك الأزمنة، ومر إلى جوار أنفك هدهد يحمل رسالة، وعاد يحمل عرشاً.

أنت الآن في أواخر القرن الـ18، تلمح رجلاً بشرته حمراء وعيناه زرقاوان، وينادونه يا حاج حسين، لا تصدقه رغم ملابسه المأربية، إنه جلازر المستشرق الذي قرأ النقوش السبئية، وحاول ردم الفجوات التاريخية، وفر بجلده خوفاً من القبائل الذين اكتشفوا أمره، واتهموه بالبحث عن ذهب الملكة تحت ركام التاريخ.

افتح عينيك الآن وانظر إلى الأسفل، ولنبدأ حسب الترتيب:

تحت قدمك اليمنى يتدفق النفط من حقول صافر، ويحترق الغاز ليلوث البيئة، ويلحق الأضرار بمزارع البرتقال والسمسم، اذهب بعينيك بعيداً لتشاهد المهربين يروضون الصحراء بسيارات "الشبح" غير المرقمة، كما هو حال معظم سيارات مأرب، وباتجاه يدك اليسرى إلى الجنوب ابدأ من الأعلى إلى الأسفل: السد الجديد، ثم أطلال السد القديم، مزارع البرتقال والقمح، ثم مأرب القديمة والعرش والمعبد ومنزل الشيخ مبخوت العرادة، وفي الجهة المقابلة تحت يدك اليمنى ينبعث لغط وتدور مبايعات، وينمو مجتمع في مأرب الجديدة.

أما في الوسط تتبعثر بيوت الطين المأربية والمزارع والتصحر، 3 دوائر انتخابية يحتكرها التجمع اليمني للإصلاح في محافظة تعداد سكانها يتجاوز الـ200 ألف نسمة بقليل.. إهبط إلى مكانك الذي انطلقت منه، وارحل فوراً عن مأرب، وعندما تجتاز ثلثي الطريق إلى صنعاء ستجد 3 فتيان من قبيلة ما يبحثون عن أبناء قبيلة أخرى.. سيدفعك فضولك الصحفي للتدخل.. إياك أن تفعل وإلا اختطفوك...

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!