عن الممكن والمستحيل، عن القدرة والحقيقة.. عن كورونا ..

د. مروان الغفوري
الثلاثاء ، ٣١ مارس ٢٠٢٠ الساعة ٠١:١٨ صباحاً
مشاركة |

1. كانت أسبانيا محايدة في الحرب العالمية الأولى. في مارس، 1918، سجّلت أول حالة إصابة بالفيروس الذي سيتعارف على تسميته ب "الحمى الأسبانية". رصدت الحالة في كنساس، أميركا، واختارالأميركان للوباء اسماً أكثر شياكة: السيدة الأسبانية.

ما علاقة أسبانيا بالأمر؟

الحقيقة أن الوباء انتشر كالنار في الهشيم على ثلاث موجات. الموجة الأولى في ربيع نفس العام، ثم انخفضت الموجة قليلاً، لكنها عاودت الظهور في خريف العام نفسه، وهدأت بعض الشيء وسمحت للناس بالخروج. ثم عادت واشتعلت في شتاء نفس العام حتى ربيع العام التالي. أصابت 40% من سكان العالم.

تخيلوا هذا المشهد:

تصاب حالة واحدة في معسكر أميركي في مدينة كنساس، بوسط غرب أميركا. وخلال 18 شهر ينجح الفيروس [في زمن سابق للعولمة] في الوصول إلى كل مكان في العالم، بما في ذلك غرين لاند، وجزر المحيط الهادي حديثة الاكتشاف، ويقتل في الهند فقط 18 مليونا! الهند التي ما كان ليخطر على بالها قط أن الملايين من شعبها ستموت قريباً بسبب فيروس ظهر على جندي أميركي في آخر العالم.

ما الذي تقوله لنا هذه الصورة المذهلة؟

كل شيء.

أسبانيا المحايدة في الحرب كانت هي الدولة الوحيدة التي اشتغلت صحافتها على مسألة الفيروس، تابعت حركته وخسائر البشرية أمامه، رصدته كل وسائل الإعلام هناك، لمحته وهو يخرج من أرض ويدخل في الأخرى، وكان العالم كله ينتظر ما ستقوله الصحافة الأسبانية حول الفيروس. من هنا، كما يعتقد أفضل المؤرخين، أخذ الوباء اسم الحمى الأسبانية. فقد اعتقد الناس أن الأسبان هم من جاؤوا بالفيروس، خاصة بعد إعلان الصحافة إصابة ملك البلاد ألفونسو الثالث عشر.

أطراف الحرب العالمية منعت كتابة أي خبر عن الفيروس حتى لا تؤثر الأخبار على سير المعركة، على معنويات الجيش والشعب، وعلى القدرة على الاستدعاء. دفن المعلومات، إخفاء الحقيقة، التضحية بالحياة لأجل الحرب هو ما فتح باب الجحيم. مات في تلك الجائجة 2.5% من سكان الكوكب!

نعود الآن لنرتكب الأخطاء نفسها، ونهلك أنفسنا بذات الخطيئة: إخفاء الحقيقة.

على سبيل المثال:

تلتقط الآلة الإعلامية الروسية صوراً لشاحنات مساعدات طبية ذاهبة إلى إيطاليا، كما لو أنها إمبراطورية قد وضعت كل شيء في قبضتها. في العاشر من هذا الشهر، بعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية وباء كورونا [كوفيد 19] وباء عالمياً، قالت روسيا أنه لا وجود للفيروس في أراضيها، وان هناك بضعة نفر أصيبوا به في إيطاليا وهم الآن في الحجر. تعيش روسيا في حالة تحفز مستمرة، تخوض حرباً من جانب واحد ضد كل طاحونة، وها هي الآن تواجه مأزقاً حرجاً. الفيروس يتفشى في موسكو، هناك حيث يعيش 12 مليون نسمة في 2500 كيلومتر مربع، في أكبر مساحة مزدحمة في أوروبا. علمتنا لومباردي أن الأشياء قد تتغير حلال بضعة ساعات [تحول المرض إلى وباء خلال 72 ساعة]. ستتوقف روسيا عن عد خسائرها كما فعلت إيران والصين، وستقبل هذه المعادلة: ستحدث خسارات جسيمة داخل الطبقة المسنة في المجتمع، وعلينا أن نتعايش مع ذلك، وأن نكتم الأخبار.. في عملية حساب استراتيجية على طريقة إمبرياليات الزمن القديم!

2. قال طبيب عناية مركزة إيطالي للإيكونوميست بالأمس، في تسجيل مصور:

لا تحتقروا هذا المرض ولا تسيئوا تقديره، أنا طبيب عناية مركزة، عليكم أن تفهموا هذا: منذ عشرين يوم لم نفطم أحداً من جهاز التنفس. من يوضع على جهاز التنفس في هذا المرض فسيبقى كذلك لأسابيع طويلة، وإذا كان لديك أجهزة معدودة فإن من يصل أولاً سيحصل على ما يحتاجه، وسيموت الآخرون.

علمياً، وبحسب البيانات التي بحوزتنا الآن [بيانات جديدة قدمتها جامعة هايدلبيرغ، على سبيل المثال]: يحدث الانهيار الشامل للجهاز التنفسي خلال ساعات قليلة، غالباً بعد طور من الاستقرار الخادع يأخذ أياماً.

ثمة فرضية تحاول شرح ما يجري اسمها "صدمة السايتوكاينس"، وهي آليات مناعية تتسبب في تخريب الرئة أثناء المعركة ضد الفيروس. تحدث الصدمة خلال وقت قصير نسبياً. ما نسميه بـ إيه آر دي إس، وهي الصورة الأكثر مأساوية لمرض كوفيد 19، هي مرحلة خطرة جداً، ونعلم من معارفنا السابقة أن واحداً من كل ثلاثة يمكن استعادته من هذه المرحلة!

إذا كان لديك تدفق في المرضى أعلى من إمكاناتك الطبية، وهو ما يمكن أن يكون عليه الحال في أغلب دول ومدن العالم، فإن الناس ستموت في غرف الانتظار كما يحدث في نيويورك.

3. جانب من الصورة في ألمانيا، النسبة المنخفضة للوفيات، والمخاطرالممكنة:

توقع بروفيسور فيلر، رئيس معهد روبرت كوخ، في حديثه إلى فرانكفورت ألغيماينه هذا اليوم أن تقترب ألمانيا من المشهد الإيطالي. قال إن كل الاحتمالات ممكنة، وأن ألمانيا ليست محصنة ضد المأزق.

لنعرف هذا عن ألمانيا:

يعيش قرابة 17 مليون مواطن ألماني وحيدا! كما يوجد حوالي 11 ألف دار للعجزة. انتشار المرض حدث داخل الطبقة النشطة، متوسط عمر الإصابة 45 عاماً. بسبب شكل الحياة الاجتماعية في ألمانيا، المسافات بين الأجيال، والعزلة التي يعيشها خمس المجتمع، بقيت الجماعات الأكثر هشاشة خارج دائرة الفيروس ونشاطه. الصورة في إيطاليا وأسبانيا بخلاف ذلك. في مدينة فولفس بورغ نقل أحدهم الفيروس إلى دار للمسنين وخلال أيام قليلة مات ثمانية من 26 إصابة حدثت [30%]. هذه المجموعة الهشة معزولة عملياً حتى في الأيام العادية. إذا ما تمكن الوباء من الوصول إليها فإن ألمانيا ستدخل في مأزق رهيب، وسنشهد نسبة وفيات أعلى من الرقم الخادع الذي نشاهده حالياً.

4. في العالم الثالث .. لنأخذ مثالين:

بومباي والقاهرة. في هاتين المدنتين المكتظتين بالسكان تعيش نسبة عالية من الناس على الكسب اليومي. قالت مجموعة من عمال اليومية للنسخة الهندية من بي بي سي إنهم على استعداد لأن يقتلهم الفيروس في الشوارع عن أن يموتوا جوعاً مع أسرهم في البيوت. تفكر الهند، وقد بدأت فعلياً، بعمل مطاعم عملاقة في المدن المكتظة وإطعام الناس داخل منظومة من التباعد الاجتماعي والحماية. القاهرة لا تقدم حتى الآن أي مشاريع استراتيجية على هذا المستوى، ولا أي خطة بديلة ذات طبيعة استراتيجية.

ماذا لو كانا لا نزال في المرحلة التحضيرية من الوباء، أو في "الهدوء الذي يسبق العاصفة" كما يتوقع شبان، وزير الصحة الألماني؟ قلت لكم أعلاه أن الحمى الأسبانية دخلت في ثلاثة أطوار، بفترات هدوء ومناورة، حتى وصلت إلى 40% من سكان الكوكب!

5. ربما يريد بعضكم قراءة هذه المعلومة، كما أتوقع:

منذ سبتمبر 2019 وحتى فبراير 2020 [أربعة أشهر] أصابت الانفلونزا الموسمية قرابة 36 مليون أميركي، وقتلت 22 ألفاً. ثمة فرق على كل المستويات بين كورونا والإنفلونزا الموسمية، ومع ذلك فقد تمكنت الأخيرة من حياة الآلاف خلال وقت قصير. ماذا سيحدث لو أن كورونا توغل في البلدان المكتظة بالسكان، مثل عواصم العالم الثالث: صنعاء، دمشق، عمان، القاهرة، بغداد؟

قبل يومين خرج "المؤمنون" لأداء صلاة الجمعة في عدد كبير من المدن العربية. وكالعادة كانت نسبة كبيرة من الخارجين من كبار السن، ممن لا يؤمنون بهذه الترهات التي نرددها، ومن نعتقد نحن أنهم أكثر هشاشة أمام مثل هذا التحدي.

لا أريد أن أتورط في التنجيم ولا في إثارة الرعب. تقول البيانات إن 50% لا يعانون من أي أعراض، وأن 30% يعانون من أعراض خفيفة، وأن 20% تتنوع مشاكلهم من اعراض شديدة إلى أعراض حرجة. ولكن علينا أن لا ننسى: فالفيروس لا يصيب مائة شخص فقط. كما أن مليون إصابة، فيما لو لم يتخذ الناس الإجراءات، ستضعنا أمام 200 ألف حالة بحاجة إلى مساعدة طبية ماسة. لا توجد مدينة على ظهر الكوكب قادرة على تقديم رعاية طبية عاجلة وكفؤة ل200 ألف مريض خلال أسبوعين!

6. أنا متفائل..

نمو الفيروس يتباطأ كثيراً بصرف النظر عن الأرقام المُطْلقة. وقد استطاعت دولة مثل سنغافوره أن تناور مع الفيروس وتسجل نتائج جيدة دون أن تضطر إلى إيقاف الحياة. كل ما فعلته أنها غيرت نظام الحياة الجماعية بالصرامة والغرامة [7 آلاف دولار غرامة على كل شخص يقترب من جسدك مسافة أقل من متر]، وبالتعاليم المستمرة.

*من صفحة الكاتب على فيسبوك.

أبرز ما جاء في لقاء معالي الدكتور شائع محسن الزنداني مع قناة سكاي...

لا تعليق!