من القرية إلى المدينة..

د. مروان الغفوري
الاثنين ، ١١ يناير ٢٠٢١ الساعة ١٢:٠٨ صباحاً
مشاركة |

واصل النهر تدفقه وألقاني من مكان إلى آخر. أنا الذي سكنت أمي الجبال وجاء أبي من الوادي ولم يسبق لي أن رأيت غلافاً رقيقاً لكتاب.

كل الكتب التي رأيتها في حياتي كانت قاسية الأغلفة، كلها من الماضي، وكلها بلا استثناء عاد بها جدّي من الحج. عدا كتاب واحد اسمه حياتنا الجنسية، لم يأت به جدّي من الحجاز وكان غلافه رقيقاً. وجدت الكتاب في حقيبة جلبها أبي ولم يقل شيئاً عنها.

بقيت الحقيبة في واحدة من حجرات البيت المظلمة، كانت أمي تسمّيها غرفة الشُّجّانة، والشجانة هي حشرة ضخمة لا هي عنكبوت ولا هي دبور.

لم نجرؤ على لمس الحقيبة حتى تجاوزتُ الإعدادية. وجدت الكتاب، وكنت أدخل غرفة الشجّانة خائفاً أترقّب، أقرأ صفحة أو صفحتين ثم أعيده إلى مكانه وأغادر الغرفة لاهثاً ثم المنزل راكضاً حتى أسفل القرية.

كان الكتاب عامراً بالصور. على رسمة لامرأة عارية وضع المؤلف حوالي 17 سهماً قال إنها تشير إلى مواضع الاستثارة. ومما أذهلني أن السرّة أخذت سهمين اثنين بينما أخذت المؤخرة سهماً واحداً. لاحظتُ مع الوقت أن بعض صفحات الكتاب قد تكرمشت، خمنت أن السبب قد يعود إلى أن ريقي كان يتطاير عليها. آنذاك ارتبكت وسرقتُ الكتاب ثم أضرمتُ فيه النار في مطرح قريب من المسجد، ولم أعد إلى الحقيبة مرّة أخرى.

قال فيصل عبد النور،وكان أكثر رجل في القرية يعرف عن الدنيا "أحرقت الكتاب الغلط، الكتاب الذي ستحتاجه في المدينة".

استسلمت للمدينة قبل أن أضع قدمي فيها، وفي الحصة الدراسية الأولى رفع كل الطلبة أياديهم بعد أن ألقى معلم الكيمياء سؤالاً. في القرية كنت أرفع يدي وحيداً وأنزلها وحيداً، وكان الطلبة الآخرون إما أنهم لا يعرفون أو أنهم يخافون. حين رأيت كل الأيادي مرفوعة وضعت يدي في جيب سروالي فأشار عليّ المعلم بالوقوف وسألني إن كنت أعرف الجواب.

كنتُ أعرف الجواب، وكان باستطاعتي أن أضيف إليه رأيي غير أن اللحظة كانت عصيبة. سألني مرة أخرى إن كنت أعرف الجواب فهززت رأسي بالنفي ووقفت اللغة في حلقي. كان سؤالاً سهلاً للغاية بَيْد أن حدقتيّ عيني أخذتا في الاتساع حتى دخل كل الضوء إلى رأسي ولم أعد قادراً على رؤية أي شيء. كنتُ أسمعه كأني في سبات، كأنه يوقظني من غيبوبة طويلة.

عرف المعلم أني قادم من القرية، كانت ملامحي تقول إني من القرية، وكانت مخارج حروفي أيضاً. وكان يمكن لأي شخص أن يخمّن أني من القرية من الطريقة التي أحشر فيها قميصي تحت سروالي.

حذرني فيصل عبد النور، وهو رجل عمل في السعودية لأعوام، من المدينة. كنت أتحدث إلى أمي أمام البيت وكانت تنصحني بالابتعاد عن أصحاب السوء والعاهرات والسينما، وكنت أهز رأسي وأنا أمشي أمامها وحولها، أقرأ من كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي. أحب القراءة واقفاً، وكنت آنذاك أقرأ من الصفحة 175.

"قال الأصمعي: قيل لعبد الملك بن مروان يا أمير المؤمنين عجّل عليك الشيب، فقال وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة".

حذرني فيصل من المدينة وقال ناظراً إلى الكتاب إن "مثل هذا الشيء" لا ينفع سوى للقرى، وأن المدن للجرائد وليس المجلدات. ثم قال وشفتاه تبحثان عن ابتسامة ملائمة:

"اترك هذا هنا عند أمك"

الحقيقة أنه قال عند والدتك، لأن أمك كان من شأنها أن تبدو كسُبّة.

طلبت منه أمي أن ينصحني أكثر، وكان لا يزال يقول ’’أبغى’’ رغم أنه ترك السعودية قبل أكثر من خمس سنوات. فكّر فيصل بنصيحة ثمينة، وتوقفت أنفاس أمي وكذلك أنفاسي في انتظار ما سيقوله.  فكّر الرجل ملياً ثم مضى وهو يغمغم "الموضوع يشتي له سَمْرة".

حين تأكدت أمي أنه قد ابتعد عنّا مسافة كافية سألتني إن كنتُ أريد أن أزوره في بيته لأستمع إلى نصائحه. كان يملك جهاز فيديو، وكان يقيم أسماراً رائعة يعرض فيها فيلم الحدود الملتهبة. يترك الفيلم يمضي، ثم يعيده من أوله إلى أن ينتصف الليل فيغادر الناس منزله وقد انتفخت أوردتهم إعجاباً ببطولات الجيش العراقي في مواجهة الفرس.

وفي مرّة عندما لاحظ أن ضيوفه كانوا، لفرط اندهاشهم، على وشك السجود أمام معركة الخنادق قام فيصل من مكانه وذهب إلى الحمام ثم عاد. وقبل أن يجلس أخبرنا بلسانه الذي يعرف كل شيء عن تلك الحرب:

"قال جنرال عراقي عندما أعلنت أمريكا نهاية الحرب كادت مرارتي تنفجر".

ثم جلس فيصل عبد النّور، جلس في مكانه، ودارت العيون حوله منتظرة المزيد. فقال وهو يضع السيجارة بين شفتيه:

"كانت خطة الوصول إلى مكّة جاهزة".

كانت المدينة على حق، كان كل ما في المدينة على حق. ولم يكن يعصمني منها سوى تلك اللحظة حين اشتري قليلاً من التمر وأصعد إلى جسر السوق المركزي وأتأمل الناس في الظلام.

حين جاء السلفيون إليّ كانوا على حق، ولم أكن بالشخص الذي بمقدوره أن يقول لرجال المدينة ما الذي ينبغي عليهم فعله. ولمّا أخذني التبليغيون معهم وجعلوني أنام بين أعمدة المساجد كانوا على حق، فمن أنا لأقول للشيخ حمود شيئاً، أي شيء، ولا حتى عن برد جامع النور.

أما الإخوان المسلمون فقد كنتُ أعرف من القرية أنهم على حق، وأنهم لفرط إخلاصهم لله كادوا يقتحمون فلسطين لولا أن الملك فاروق طعنهم من الخلف.

وجاء الصوفيون وهم قوم نعرفهم حق المعرفة، ولولاهم لما كانت القرية على ما هي عليه. مضيت في كل السبل وراء كل داع فمن أنا لأقول لا، من أنا لأقول لأهل المدينة امنحوني وقتاً للتفكير. وكما أخبرتكم فالعلمانيون كانوا منشغلين بملاحقة أبناء المدن تاركين القرويين لأهل الله.

صرتُ أكثر هدوء وشروداً. وقفتُ في طابور الصباح، كان معلّم الإنجليزية على المنصة وإلى جواره معلم هندي، يتحدث الهندي بالإنجليزية وكان معلم الإنجليزية يترجم كلامه. لا أدري لماذا جاء ولا من هو، فهمت أشياء قليلة لم أكن حتى أريد أن أفهمها. كان محمد المُحيا يقف خلفي ويهمس بكلام لم أفهم منه شيئاً. واصل الهمس وكانت له ضحكة خفيفة مميزة، كلها صفير وأنين. قال إنه لاحظ بعض الرطوبة في صحن تجاربه حول النفط، وأنه يعتقد أن عظام الدجاج قد بدأت في التحول إلى بترول. عرض عليّ أن أصاحبه إلى منزله، وكالعادة قلتُ له نعم.

كنتُ أمضي خلف أهل المدينة، أصدق كل ما يقولون، فالمدينة تعلم كل شيء والمدينة على الحق. غرست إصبعين في تراب الصحن ثم أدنيتهما من أنفي، كانت رائحة غريبة وقذرة. قال محمد واللعاب يتكوم عند زوايا فمه إنها رائحة نفط، وحلف بالله. اختار لله اسماً جعلني أصدق كلامه، اختار الجبار. لم يسبق لمحمد المحيا أن حلف بالجبار. ولكن أمام مشهد مهول مثل ذلك الذي وقفنا عليه، والنفط يخرج من عظام الدجاج، فإن الجبار كان هو الاسم الأمثل.

غادرت المدرسة بعد نهاية الحصة السادسة، كالعادة. اصطحبني شمس الدين الإبن حتى البوابة، هناك وقفنا وتحدثنا عن مرض جدتي. قال إني أصبحت رجلاً ذاوياً وأنه لم يسبق أن رأى شخصاً يحزن على جدّته بتلك الطريقة. أردت أن أشرح له ما تعنيه لي جدّتي ولكنه قاطعني قائلاً إنه يتفهم كل أنواع الحزن، وأنه فقط أراد أن يقول إن حزني يستحق الاحترام.

عرض عليّ أن يصاحبني إلى سكني ويبيت معي فتملصت من عرضه. سكتَ قليلاً ثم رفع رأسه وقال "ما رأيك لو تبيت عندي؟". ثم تحوّل عرضه إلى إصرار، أخذ بيدي وجرّني خلفه إلى أن تجاوزنا الأسفلت حتى الضفة الأخرى. مشينا بمحاذاة سور المعهد السويدي وبعد أقل من نصف ساعة كنا نجلس في بيته.

في المساء جاء والده والقى علينا السلام ثم صعد إلى ديوانه، وسمعنا له هديراً. وقبل الفجر كان صوته يخترق الجدار، كان يسبح ويمجّد الله على طريقته. كان صوته دافئاً وغليظاً، وكان يسعل بين الحين والآخر.

"أنت ربّي، تقدس اسمك، تمجّدت ذاتك، تعالى نورك، امنحني ما يسترني، واحفظني حين لا حافظ سواك. جئتك بهذه الأطمار فإن شئت قبلتني بها وإن شئت احرقتها في وجهي، لا سبيل إليك سوى فرحي بك، لن ألجأ إلى سواك، أو يفر العبد من خلاصه؟ اللهم إن كان يرضيك فاشعل النار في هذا الجسد ليدفأ الواقفون أمامك في يوم لا برد قبله ولا برد بعده. عذبني مولاي بما تريد لمن تريد، ولا تتركني أدخل الجنة خالياً من الجراح والآلام. الله الله الله الله. يا مالك الأسرار، يا من يدخل الجنة في النار، احرق جسدي وطهّر بصيرتي، نجّني من الطين، نجّني من التّراب، نجّني من صوت الدنيا، طهّرني مما علق بي من عيون الناس وقولهم، واصطفيني لك عبداً أو شجرة. لك قطعتُ أوردتي، في سبيلك أحرقت مركبي، ومن أجل نظرة إلى نورك أطفأت كل شيء في جسدي عدا اسمك. الله الله الله، اعصمني بحروف اسمك، ادخلني في اسمك، ادخلني في صفاتك، ادخلني في مواقيتك، ارفعني إلى صوتك، بددني في ذاتك، آلمني هذا الجسد، آلمني هذا الحب، الله الله الله الله .."

ارتجفتُ، فردتُ اللحاف على جسدي. كأني كنت في صحراء قارسة البرد، عارياً ووحيداً. كان الصوت العظيم لشمس الدين يحرق الدنيا، كنت مغمض العينين ورأيت ناراً تشب في جسد الكون وكان شمس الدين يحاول إطفاءها بقفطانه، ثم توقف عن محاولاته وتركها تضطرم وراح يهز رأسه ويشير إليها بمسبحته.

لهجت باسم الله، الله، الله، الله. رأيت جدتي تدهس تلك النيران، كان شمس الدين يمسك بيدها ويذود عنها النار، يأخذ بيدها إلى خلاص في الجهة البعيدة. 

رأيتها تنهره وتردد كلامه:

"إلهي ومولاي، اضرم النار في هذا الجسد حتى يرى الحاج طريقه".

كانت تضحّي بجسدها مبتهجة، تضرم النيران فيه كي تنير لزوجها الظلمات. وكان جدّي يبصر طريقه في ذلك الجحيم ويمضي بعيداً عنها.

---

مروان الغفوري

نص قيد الإنشاء

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!