حوار بين الغفوري والشيخ شمس الدين

د. مروان الغفوري
الأحد ، ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٠ الساعة ٠١:٠٩ صباحاً
مشاركة |

قلت لشمس الدين الأب حين سألني ’’هل تخاف من خطاياك؟’’ إن الوضوء يغسل الذنوب ويطهّر الجوارح.

’’أين قرأت هذا؟’’ سألني.

’’في حديث ألا أدلكم على ما يمحو به الله الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد’’

’’حسناً. والصلوات الخمس مكفّرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، يقول حديث آخر. هذه الأحاديث على كرمها تضع شرطاً عصياً على العبد، ألا وهو ترك الكبائر. شرط عصيّ ليس لأننا لا نقدر على تركها بل لأننا لا نعرف ما الكبيرة وما الصغيرة. بغي رأت كلباً يطوف حول بئر وقد استبد به العطش فخلعت خفّها وسقته فغفر الله لها. وامرأة مؤمنة حبست هرّة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض فدخلت النار. ما هي الكبيرة وما أعظم الطاعات؟ حبس الهرة كبيرة، وسقي الكلب من أعظم الطاعات؟’’

قلت محاولا احتواء ذهولي أمام نفسي:

’’بالفعل. هذه من أحاديث البخاري ومسلم. كأني أسمعها لأول مرة’’

كانت ملامحه تتداخل فجأة وكأنه فقد تركيزه حين يسمع اسم البخاري أو مسلم. قال:

’’إذا قال لك الله لن أغفر لك حتى تترك الخطيئة، فما الذي سيغفره إذن؟ وهل يغفر المرء خطاياه بنفسه؟ ما لذة الله إن لم يكن الغفران عند الكبيرة والبكاء عند الأشواق. ليس صحيحاً أن النار حفّت بالشهوات والجنّة بالمكاره. لا لذة في الشر ولا مكابدة في الخير. انظر بين قدميك وستجد الجنّة. إماطة الأذى عن الطريق، على سبيل المثال. اسق كلباً، اطعم جائعاً، واس أرملة’’

’’لكن سلعة الله غالية يا شيخ شمس الدين، ليست بهذا الرخص’’

’’الله لا يبيع جنّته ولا يفرش عنبه وتفاحه أمام المساجد وتحت أقدام المصلّين. هذا التسوّل لا يليق بالله. قال له أحد الصالحين إن كنتَ لن تمنح جنّتك إلا لمن تحب فلتعش جنتك خاوية على عروشها’’

التقط أنفاسه ومسح شيئاً من على وجهه بطرف شاله.

’’أنتَ الآن يا بني دخلت علينا وعيناك مليئتان بالإثم. دعني أقل لك، ولا تغضب: لا شك لدي أنك ارتكبت كبيرة في الأيام الماضية، وأنك مصرّ عليها. لا أظنك قادر على تركها. يقول الحبيب ما من عبد إلا وله ذنب يأتيه الفيّنة بعد الأخرى حتى يلقى الله. فإن كانت المغفرة مقرونة بترك الذنوب فلن ينالها أحد، سوى العارفين. والعارفون يا بني ليسو بحاجة إلى المغفرة ليس لأنهم بلا ذنوب بل لأنهم يحبون الله بلا شروط، وهم مستعدون للجنة والنار بكل رضا. لم يتساو لديهم الذهب والمدر وحسب بل الصغيرة والكبيرة، فوجدوا الباطل في الحق والحق في الباطل. يا ابني إذا دنوت من الله رأيت حقيقة أخرى’’

’’إن كانت الصلوات لا تطهر المرء من الخطيئة فماذا أفعل؟’’ سألته؟

’’اجتنبها في شبابك وتجاهلها في شيخوختك وصالحها قبل موتك’’ أجابني

’’وإن لم أستطع؟’’ قلت.

’’هلكت’’ قال.

لقد هلكتُ، قلتُ لنفسي. كان شمس الدين يحدّق في عيني بعينين باردتين. كان ابنه منصتاً ويهزّ رأسه. بالأمس حضرت درس الأستاذ بحيرى وهناك أدركت أني رجلٌ مخروم المروءة، فهربت إلى السينما وعاشرت مخرومي المروءة لبعض الوقت. والآن يرى شمس الدين آثامي ويبشرني بالهلاك.

صب شمس الدين القهوة لثلاثتنا. غيرت رائحة الزنجبيل أجواء الديوان وفرت الشياطين. كان شمس الدين قد توقف عن الحديث وبقي صوته يتردد بين جدران ديوانه.

ثم قال محاولاً احتواء هلاكي:

’’خبرني عن ذنبك؟ أهو امرأة؟’’

هززت رأسي وتركت شفتي تفلتان مني. هو امرأة، ولا امرأة. ماذا أعرف عن ذنبي؟ مسح شمس الدين على لحيته وقال دون أن يكون قد سمع مني جواباً:

’’وهل المرأة ذنب يا بني؟’’

سمعنا صياحاً في الحي، صوت رجل يحلف بالله.

’’الذنب ما حاك في قلبك وخشيت أن يطلع عليه الناس’’ قلتُ لشمس الدين.

’’وهل تخشى أن يطلع الناس على ذنبك؟’’

ثم نظر إلى ولده وسأله:

’’هل أفشى لك بسرّه؟’’

فهز شمس الدين الابن رأسه نافياً.

’’إذن فهو ذنب. لا تصبح المرأة ذنباً إلا إذا أخفى الرجل قصتها. تطهر من الذنب وحدث الناس عنه’’

’’لا أستطيع’’

’’إن لم تستطع أن تتطهر منه فعش به. ارتاده الفينة بعد الأخرى واسبغ الوضوء على المكاره’’

’’وهل يفيدني الوضوء مع الذنب؟’’

’’نعم إن كان الذنب امرأة’’

’’وكثرة الخطى إلى المساجد؟’’ سألته.

’’أينما أخذتك قدماك فثم وجه الله. أشواقنا تدلنا على الله وليس ذنوبنا. الله لا يسكن بين الجدران. امض وحيثما تدركك السعادة قف وتلفّت’’

ثم سألني:

’’طلبَ منك أحدهم أن تعلم ابنته فوقعت في غرامها. أليس كذلك؟’’

تجمد الدم في ذراعيّ، وسال في أطرافي السفلى. حاولت أن أهرب من عيني شمس الدين، من حدسه، ومن صوته الذي يملأ كل شيء.  عاد الصوت الغليظ مرة أخرى، رجل في الخارج يواصل الحلفان بالله. أنا هنا لأن شمس الدين الإبن أبلغني رغبة والده في أن يستمع إلى شعري وأن يسمعني من أشعاره. أخذني إلى واد آخر. توغل في ذنوبي وكشفها ثم بشّرني بهلاكي. استخرج خطيئتي من أعماقي وطرحها عارية أمام عيني. كانت خطيئتي عارية وها هي الآن أكثر عرياً. قال إني لن أفلت منها وسأرتادها الفيّنة بعد الأخرى. قال إني هالك، ثم قال إني ربما سأجد الله في تلك الفتاة.  طرحني في باب الجحيم ثم استعادني ساخراً وقال ’’ما تظنه الجحيم ليس سوى وجه الله’’. المرأة لا تودي إلى المهالك بل إلى الحق، ولا تلقي بصاحبها إلى النار بل تفتح له فتوح العارفين.

’’هل قرأت شيئاً من ترجمان الأشواق؟’’

’’لا’’

’’نزل مولانا ابن عربي في منزل صديقه الشيخ زاهر الأصفهاني. بعد أن رأى منه الأصفهاني ما رأى من الأدب والبلاغة عهد إليه بتعليم ابنته. لا ندري ماذا تعلمَت الفتاة من حكمته وأسراره، ولكنه عشقها وتشبب بها وتعبد الله من خلالها. لو كتم حبها لأصبح مذنباً وخائناً مثلك الآن. شيوخنا لم يكونوا يرون في المرأة رجساً ولا حتى جسداً، بل فيضاً من فيوض الله. لم يجد ابن عربي الله في شيء أكثر مما وجده في تلك الفتاة، حتى إنها ألهمته الترجمان والفتوحات، وربما أكثر من ذلك. إذا لوحت لك المرأة فلتمضِ إليها وستجد الله. كان بعض ساداتنا يمجدون القرب من المرأة حتى الفناء فيها، ففي أعماق ذلك الفناء وجدوا الحق وانفرد بهم الحق. مضى موسى إلى الجبل لينفرد بالله دوناً عن الناس. ليكون كله لله وحتى يكون الله كلّه له. أما سادتنا فوجدوا الجبل في مكان آخر. الجبل قد يكون امرأة أو كلباً يلهث من العطش. إذا وجدت الله ستعجز عن شكره، ولن يكون أمامك وأنت على متن الجبل سوى أن تقول: إلهي إني عاجز عن شكرك فاشكر نفسك عنّي’’

قام شمس الدين من مجلسه وطاف قليلاً بالبيت متأملاً رفوف مكتبته، ثم غمغم بصوته المهيب:

’’حجبهم بالاسم فعاشوا،ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا’’.

في غرفتي رسمت الفتاة مرّة أخرى، كانت عيناها في تلك الليلة أوسع من كل الليالي، وكانت جالسة وتلوّح بيدها. مضيتُ إليها وبالكاد كانت قدماي تقوى على حملي. أردت أن أقول ربي أذنبت فاغفر لي، ولكني خشيتُ إن أنا قلتُ ذلك فقد أسأت فهم الله، ولم أدرك حقيقته.

مروان الغفوري

نص قيد الإنشاء  

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!