’’محمد’’

د. محمد جميح
الثلاثاء ، ٢٧ اكتوبر ٢٠٢٠ الساعة ٠٢:٣٢ صباحاً
مشاركة |

الاسم الذي أخفته دائرة تسجيل المواليد في سلطة السكان والهجرة في إسرائيل، حتى لا تـُظهر للعالم أن هذا الاسم حقق الرقم الأعلى بين أسماء المواليد في «الدولة القومية لليهود»، خلال السنة العبرية التي تصرمت قبل أيام.

عجيب، مدهش محير هذا الرجل.. دعوني اتحدث عن «محمد» البشر، الرجل، الإنسان، البطل، الحكيم، القائد المؤسس، محمد الشخص الذي ولد وعاش فترة من الزمن كغيره من الناس. لا أتحدث عن محمد النبي، لأن هناك من ينكر نبوته، ولهم ذلك فقد قال القرآن «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وليس لأحد أن يلزم من أنكر نبوته بهذه النبوة. دعونا من هذه القضية: هل هو نبي أم لا؟ نحّوها جانباً، وتعالوا نحكي عن «محمد» الإنسان.

ولد في بيئة شبه قروية، وسط صحراء مترامية، ونشأ في البادية، ورعى الغنم، ومارس التجارة، ومشى في الأسواق، وأكل الطعام، وأحب النساء والطيوب، وكان على ذوق حضري وحس مرهف، يقول لأحد أصحابه وقد بدا عليه شيء من صفات الأعراب، يقول مداعباً «أما غادرت أعرابيتك». يأتي إلى مكان اسمه «يثرب»، قيل سمي كذلك لكثرة الحرب التي شهدها، فغير الاسم إلى «المدينة»، في انحياز واضح لقيم التمدن والتحضر.

كره من كل قلبه رجال الدين الذين اتخذوا الدين وسيلة للسلطة والثروة، وأعلن الحرب الفكرية عليهم، تماماً كما يفعل كل رواد النهضات، ورجال الإصلاح الاجتماعي، والمفكرون العظماء. يقول القرآن عمن وظف الدين مالياً، وفتح به جمعية خيرية لكنز المال لصالحه باسم الدين، «يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله». كما ينتفض محمد في وجه الذين يسيسون الدين، ويمتهنون توظيفه لتحقيق المكاسب السياسية، ويضرب لهم فرعون مثلاً، ويقص عنه قوله «وقال فرعون ذروني أقتل موسى، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد»، وفرعون كان ينتمي إلى فكر التوظيف السياسي للدين، الذي عليه كثير من الجماعات الدينية اليوم التي تبتغي بالدين وجه المال ووجه الكرسي.

كان رجال الدين يعيشون عالة على أديانهم، كما يعيش البعض منا اليوم، أما محمد فرجل يعيش مع مثالياته الكبرى التي غيرت وجه التاريخ الإنساني، يمشي وراء أغنامه، وصدره يجيش بالقيم العليا، يرقب شياهه بعين، والأخرى ترى ما لا يرى غيره، يضع يده على ضرع شاته ليحلبها، وقلبه معلق بعالم آخر أبعد من شعاب مكة ووديانها. رجل مدهش، عجيب، محير، قالوا إنه خرج يطلب الملك، وعرضوه عليه ورفضه، قالوا بل يريد المال (ألم يعمل في التجارة؟)، وعرضوا عليه المال فرفضه، وعصب على بطنه ثلاثة أحجار، ومضى بجوعه، وصبره يشق طريقه نحو غاياته الكبرى التي يجيش بها فؤاده، ويكاد يبوح بها قبل الآوان.

محمد الرجل الذي توجد اليوم أقسام خاصة بدراسة تاريخه ودينه وحضارته في معظم جامعات الغرب، الذي تعلم من محمد الكثير وإن حاول إخفاء ذلك.

قيل فيه الكثير مدحاً وقدحاً، من خصوم وأتباع، أنصفه الكثير، وظلمه الكثير، وحاول الكثير التخلص من إرثه في عالم يشكل محمد فيه حجر الزاوية، وأعجوبة في القدرة على التصرف، والبناء والحزم والحلم والقوة واللين والسياسة والجيش والحرب والسلم على السواء.

هو مؤسس الإرهاب العالمي عند قوم، وهو مثال الكمال الإنساني عند آخرين، بدوي أعرابي بفكر متخلف عند البعض، وباني حضارة عند آخرين، صاحب أطماع توسعية واستعمارية عند الخصوم، وفاتح قلوب الناس قبل بلدانهم عند الأتباع وكثير من الخصوم.

«القاعدة» تذبح باسمه، والذي يناول الجياع في إفريقيا الطعام، يعطيهم باسمه، وابن عربي تحدث عنه، وابن رشد حار فيه، وابن حنبل وأبوحنيفة من تلاميذه، والكواكبي والأفغاني أخذا منه، وغاندي ومانديلا غرفا من حوضه، وتركيا تعود إليه، ولندن ترفع له القبعة، وواشنطن في حيرة من أمرها إزاءه، وهو هناك في بيته المبني من الطين يقول «أيها الناس، إفشوا السلام، وأطعِموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».

الإعلام الغربي يسلق اسمه كل صباح ومساء على نار هادئة وخبيثة، وهو يزيد لمعاناً تحت النار، ويتحرك نحو الغرب ببطء يقض مضاجع أساطين المال، ومصاصي دماء الشعوب، فيصرخون: «محمد يغزو أوروبا.. محمد سيسيطر على بريطانيا بعد أقل من أربعين سنة». وتضحك جارتي الإنكليزية من كلام الإعلام، وتقول «يخدمونه من حيث قدروا أنهم يسيؤون إليه».

قال لي صديق إن محمد قد زنى، لأنه أخذ مارية القبطية بدون عقد زواج، ناسياً ان ذلك كان متعارفاً عليه في سياقه التاريخي، وأن مارية كانت في عرف الزوجة، وقلت له إن محمداً دافع ببطولة عن أم المسيح، ضد من اتهموها بالزنا، وأن قرآنه برأها من التهمة وقال، «يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين»، ولا يمكن لمن استمات في تبرئة مريم من الفاحشة أن يرتكبها. قال لي إن محمداً تزوج الكثير من النساء، قلت وسليمان تزوج ألف امرأة حسب الكتاب المقدس. قال: ولكنه كان يحب النساء. قلت: ومن من الرجال يكرههن؟! ولو كان الذي يحب النساء غير محمد لقمت تمجده، ولأضفيت عليه صفات الفحولة والرجولة الدنجوانية. والتعدد كان في شرائع الماضين جميعاً، فلماذا الانتقائية في توجيه النقد إلى محمد وحده، ثم إنه لا ينبغي أن نحاكم الأنبياء بمقتضى اتفاقية جنيف لحقوق الإنسان، يا صديقي.

«محمد»، جاء بالسيف، ولم يأت بالكلمة، كما تقول جوقة اليمين الغربي على جانبي الأطلسي، وهذا كذب واضح، لأن أول ما جاء به محمد كانت كلمة «اقرأ»، ثم إنه ما حمل السيف إلا مضطراً، ولا أجاز الحرب إلا للدفاع عن النفس. أما ما سوى ذلك فقد كان قرآنه واضحاً في قوله: «لا إكراه في الدين» وقوله «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».

تميزوا من الغيظ، دفعوا بمجموعة لإنتاج فيلم مسيء لمحمد، وينتشر الفيلم، ومحمد في بيته الطيني يسخر من أعمالهم الجبانة، ويبتسم لسوء تصرفهم، ويرى ما لا يرون، ويفاجئنا أرنود فاندون، نائب رئيس حزب الحرية اليميني الهولندي السابق، الذي أخرج الفيلم وتبناه، بقوله: «اعتناقي للإسلام جاء من قناعة خاصة ودراسة دقيقة من خلال قراءة القرآن قبل أن أسلم»، ويسلم ولده ويذهبان إلى مكة والمدينة، يذهبان للسلام على محمد، وهو في بيته الطيني يرحب بالضيوف كعادته، ويسكب لهم أكواب القهوة العربية، ويجلسهم في مكانه في تواضع لا يجيده إلا العظماء.

وقد حاول القرشيون إثناء أعرابي عن سماع محمد، وخوفوه منه إلى أن وضع في أذنه القطن حتى لا يسمع محمداً في الحرم، وانتهت الحيلة، وانتهى صاحب القطن إلى أكبر دعاة محمد في بادية العرب.

وعوداً على بدء، اتهمت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية سلطات البلاد باخفاء حقيقة أن اسم «محمد» كان الأول بين أسماء المواليد في إسرائيل، في السنة العبرية الماضية، في صفعة جديدة يوجهها ’’محمد’’ لقوى الاستعمار والاحتلال والعبودية والعنصرية القومية. تقول الصحيفة في افتتاحية عددها المنشور بتاريخ 23/9/2014 «بين الفحص أنه بالنسبة لعموم السكان فان «محمد» بالذات هو الاسم الأكثر انتشارا في سنة تشعد العبرية».

أرفعوا قبعاتكم له، إنه رجل عظيم، ونبي كريم.

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!