عن أسنان الحصان..

د. مروان الغفوري
الاربعاء ، ٢١ اكتوبر ٢٠٢٠ الساعة ٠٣:٣٧ صباحاً
مشاركة |

يمكننا توزيع الإسلام إلى خمسة إسلامات أفقية:

- الإسلام السياسي، يعد الإخوان المسلمون أبرز ممثليه، وله أشكال وطبقات.

- الإسلام السلفي، يعُد الولائيون أبرز ممثليه، وله تنويعات شتى.

- الإسلام الصوفي، وهو الإسلام الأكثر ذيوعاً في المجتمعات المسلمة غير العربية، وله تمثلات ونماذج يصعب حصرها.

- الإسلام الجهادي، وله تمثّلات كثيرة ممتدة من إيران إلى اليمن. يقع الجزء الأكبر من الإسلام الجهادي داخل الحقل الشيعي، الذي يعرف نفسه باعتباره مجاهداً [بحسب أوليفيه روا في أطروحاته العديدة حول الإسلام السياسي]. داخل الإسلام السني ثمة ظواهر إرهابية عديدة، صغيرة ومتوسطة الحجم.

- الإسلام المؤسسي، وهو إسلام المدرسة الدينية، خليط من كل تلك الإسلامات بنسب تزيد أو تقل. يعد الأزهر أبرز ممثليه.

بموازاة هذه الحقول الخمسة، ذات الطابع النظري والفلسفي، هناك إسلام شعبي. للإسلام الشعبي صور شتّى، وهو في طبيعته إسلام محايد على المستوى السياسي ومتسامح على المستوى اليومي. يخوض الإسلام الشعبي، مثل أي ديانة، صراعات أهلية دفاعاً عن اعتقاده لا عن ديانته. أي عن شخصيته التاريخية والأهلية [ما يجري في الهند، على سبيل المثال].

لننظر إلى هذه الصورة ونطرح هذا السؤال: من أين خرج الإرهاب؟

1- مطلع الألفية قام الدكتور مارك ساغن، وكان مستشارا للمؤسسات الأمنية والعسكرية الأميركية، بمحاولة لتقديم إجابة عن هذا السؤال. ما حدث في نيويورك، 2001، كان صادماً ومخيفاً استدعى إجابات أكثر وضوحاً من التعميمات التي يطلقها المثقفون. جمع ساغن تسعة آلاف وثيقة، حلل البيانات التي لديه وتوصل إلى استنتاجه: في 85 في المائة من حالات الإرهاب التي درسها كان القمع السياسي هو المولد الأساسي.

2- للكاتب البرتغالي الأشهر ساراماغو مقاربة مثيرة للانتخابات. ينظر إلى القرن العشرين ويرى المجتمعات غارقة في الأمّية بشقيها: الأمّية الهجائية والأمّية الوظيفية. تعرّف الأمية الوظيفية ب: شخص يجيد القراءة والكتابة لكنه عاجز عن كتابة بضعة أسطر، أو استيعاب معنى النص. بالنسبة لساراماغو فالناخب سيذهب لاختيار ممثليه بناءً على البرامج التي قدمت له، ومن المفترض أنه قد اطلع عليها وهضمها. تبدو الاختيارات الديموقراطية هنا، بالنظر إلى ما نعرفه عن مستويات الأمّية، اختيارات عمياء، وعليه فإن التمثيل الديموقراطي هو تمثيل أعمى. يمكننا سحب الفكرة نفسها إلى حقول أخرى: الشخص الذي حاول قتل نجيب محفوظ قال إنه لم يقرأ الرواية. الحقيقة أن هذه الجملة هي الشق الأيسر من الحكاية. إذ يقول الشق الآخر إنه لم يقرأ القرآن أيضاً. أو أنّه قرأه بأميته الوظيفية، تلك القادرة على استخراج الكلمة لا المعنى. أي أن "البرنامج" ليس سبباً مباشراً في الاختيارات والأفعال. ثمّة دوافع أخرى أكثر تعقيداً من البرنامج، وأكثر إلحاحاً من النظرية.

لنعد إلى الأرقام، بعيداً عن تعميمات المثقفين الكسولة: أورد القرآن 118 آية حول الحرب، موزعة على 48 سورة. كل تلك الآيات تدعو إلى السلام والعفو عدا واحدة. خارج القرآن ستجري الأمور على نحو مختلف. ففي كتاب الصارم المسلول، وهو الكتاب الذي يعتمد عليه كل القتلة، استخدم ابن تيمية الفعل يُقتل حوالي 2450 مرّة [قمت بهذا الإحصاء بنفسي]. الكتاب يتحدث عن عظمة النبي محمد وعقوبة شاتميه. نحن هنا بأزاء مرجعية تدعو للقتل. كما أن ابن تيمية لم يمؤسس القتل في كتابه ذاك وإنما تركه مشاعاً لمن قدر عليه. يعتبر ابن تيمية الأب المؤسس للديانة السلفية، ولدى السلفية مؤسسون آخرون يمجّدون القتل في حقول أخرى، مثل حقلي العبادة والعقيدة. فعندما دخلت السلفية جنوب العراق، 1802، فعلت كل الأشياء التي كان النبي محمد يقول لجيوشه لا تفعلوها: لا تقطعوا شجرة، لا تقتلوا طفلا، لا تخرجوا أسقفاً من أسقفيته، لا تقتلوا امرأة ولا شيخاً، لا تنهبوا مالاً.

3- في الأسابيع الماضية وقعت فضيحة مدوية هزّت المجتمع الألماني. جرت الفضيحة كالتالي: انكشفت مجموعة واتس أب لحوالي 25 ضابط شرطة يتبادلون فيما بنيهم، منذ أعوام، مواداً وصوراً وشعارات عنصرية ونازية. أحيلت المجموعة إلى القانون وفقد الضباط عملهم. للألمان مقاربتهم الخاصة للمشاكل، ورغم عبقرية اللغة الألمانية [قال هايديغر: لا يمكنني تخيل فلسفة خارج اللغة الألمانية] إلا أن هذا البلد العملاق تحكمه المعلومة والحقيقة، ولا يجري وراء التعميمات والانفعالات. وهكذا فقد أدت الفضيحة إلى جدل مثير: لماذا لا نجري دراسة لقياس مستوى "النازية" في منظومة الشرطة؟ أجّلت كل التعميمات والإجابات لحين الانتهاء من تلك الدراسة التي ستتوخى الوصول إلى استنتاج أكاديمي يشرح المشكلة ويضعها في سياقها الفعلي.

على الجانب البعيد، في العالم المسلم، تحدث المشكلة المركبة فيتقافز المجتمع إلى الأعلى صارخاً. يقول فريق "بلى نحن إرهابيون"، يقول الآخر: لقد فعلنا ما يجب أن يحدث. لا نملك بيانات، لا نعلم أي الإسلامات الخمسة هو مصدر المشكلة، فقيرون إلى المعلومة، نجهل مصدر التيار، نغطي كل ذلك الفراغ الرهيب باستيهامات وتعميمات لغوية، ونعزل كل مشكلة عن الأخرى أو نربطها بخيوط وهمية. تكرر المشاكل نفسها ونقفز إليها بالطريقة نفسها، نعيد ما قاله مثقفو ستينات القرن الماضي تجاه لون مشابه من الإصابات والمسائل، كما لو أن قدراتنا البحثية والمعرفية لم تتقدم خطوة واحدة. يرفض الإرهابي الاعتراف بالحياة الجديدة، يشاركه المثقف العربي الموقف نفسه، كل على طريقته.

4- قلتُ إن القرآن ليس كتاب حرب، كما يردد مثقفون أوروبيون علانية أو على استحياء. بصرف النظر عن إيماني أو لا-إيماني بذلك الكتاب فقد قرأته مرات يصعب عليّ تذكرها، المرة الأخيرة قبل أسابيع. يستحق القرآن، ككتاب، نظرة من كل مثقف معني بفهم الظاهرة الإرهابية. نص بالغ التعقيد ليس وحسب على إمكانات قاتل فرج فودة، بل على قدرات شيخه أيضاً. كما يقول الحاج محمد سعيد في رواية حرب الشيخ أحمد: القرآن لما قرئ له، ولو بحثنا عن آيات تقول إن الشيخ أحمد هو المسيح الدجال فسنجد تلك الأيات في أول صفحة.

ذلك ما يجعلني اعتقد أن القرآن ليس عنصراً في الظاهرة الإرهابية، وأن على العربي والمسلم أن يجري دراسته العلمية التفصيلية لفهم المشكلة المركبة في الأسفل، في القاع، وليس داخل النص. فلم يكن مجتمع قرطبة، الذي يمثل أيقونة التعايش في تاريخ البشر، سوى مجتمع داخل العالم المسلم. لم يكن المجتمع المسلم في قرطبة مأزوماً، لذا فإن إسلامه لم يعش في مأزق. يتحدث ماكرون عن أزمة الإسلام. تبدو المسألة أكثر تعقيداً من كونها أزمة دين، فهي أزمة مجتمع كبير هو ثاني أكبر مجتمعات الأرض بعد المجتمع الكاثوليكي. تنشأ الأزمة في القاع ثم تصعد إلى الأعلى لتصبح أزمة كتاب، وليس العكس. الكتاب لا يشوش على المجتمع، والمجتمعات بطبيعتها لا تقرأ، بل يحدث العكس: تشوش المجتمعات على كتبها المقدسة [دراسة: قال 41 في المائة من الإيطاليين إنهم يقرأون كتاباً واحداً على الأكثر في العام الواحد].

المجتمع المسلم متعدد الطبقات، الهويات، الإثنيات، الخرائط الجينية، اللغات، الخبرات، الخيالات، التجارب، المرجعيات، المعارف، الآداب، الانحيازات، وحتى الإسلامات. كان أمارتيا سن في "السلام والمجتمع الديموقراطي" يسخر ممن يصنف فناناً هندياً بأنه فنان مسلم أو هندوسي. يجادل باستفاضة حول الهوية الطبقية. فالفنان الذي يوصف بأنه مسلم هو في الأساس: فنان، هندي، مسلم، ليبرالي، يحب كرة القدم، رجل، نسوي، انطباعي، أسيوي، أسمر، ينتمي لحزب، معلّم، نصير للبيئة، إلى آخره. إنه متعدد الطبقات والهويات، ومن الاستخفاف تجريده من كل هوياته تلك واختزاله في هوية واحدة: مسلم، معتقداً أنك قد وضعت له التعريف المناسب.

نحن في مسيس الحاجة إلى دراسات واسعة، تتحصل على الأرقام والبيانات ثم تحيل تلك الأرقام إلى معلومات. بعد ذلك سنجري تحليلاً للمعلومات ونخضعها للنقاش. ما يجري الآن هو أننا نخوض نقاشاً بلا بيانات، ونلقي تعميمات لا تستند إلى أي معمل، ونبدي استعداداً لوصف أهالينا ومجتمعاتنا بالبربرية والإرهاب لأننا نشعر بالضجر، ولا نريد أن نسمع شيئاً عن تلك المشكلة. أو إننا نفعل كل ذلك استناداً إلى ملاحظاتنا الشخصية. وأياً كانت الملاحظة الشخصية عبقرية ودقيقة فهي ملاحظة لا ترقى لأن تكون حقيقة أو علماً.

فما حدث في البرلمان الألماني قبل عامين كان مثيراً وصادماً. فقد قام برلمانيون ألمان بمطالبة وزير الداخلية الألماني بتقديم عرض حول الجرائم التي حدثت في ألمانيا وكانت دوافعها إيديولوجية / سياسية. حدثت الصدمة حين سمع البرلمانيون، بخلاف توقعاتهم، تقريراً مفصلاً من الوزير يقول إن الراديكاليين اليمينيين ارتكبوا ما يزيد عن 600 جريمة ذات طابع إيديولوجي، اليسار الراديكالي ما يزيد عن 300 حالة، والمسلمون أقل من عشر جرائم "ذات طابع إيديولوجي".

التعيممات التي راجت كانت مختلفة كليّا. وهذا ما يجري دائماً مع الحقيقة والأرقام.

تتذركون ما كتبته في السابق عن المناظرة الأكاديمية التي حدثت في القرون الوسطى حول أسنان الحصان. ذلك حين قام لاهوتي ليتحدث عن الأمر مستنداً إلى آراء القديس أوغطسين، ثم قام أكاديمي مثقف ليدحض آراءه مستنداً إلى فيثاغورث. وفي لحظة صمت قام رجل من الحضور وقال: هناك حصان في الخارج، لماذا لا نذهب إليه ونعد أسنانه.

عند كل حادثة إرهابية نعيد الكلام ذاته، النقاش نفسه، ونطرح التعميمات التي طرحها آباؤنا وأجدادنا. ورجل فينا يتساءل: لماذا لا نذهب إلى الحصان ونعد أسنانه؟

م.غ.

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!