هل هي أزمة دين بعينه؟

د. مروان الغفوري
الثلاثاء ، ٢٠ اكتوبر ٢٠٢٠ الساعة ٠٥:٣٦ صباحاً
مشاركة |

الحضارة الراهنة مأزومة وربما وصلت إلى طريق مسدود. إن حقن السم في دماء المعارضين، وضعهم في معسكرات اعتقال جماعي، تقطيعهم بالمناشير، إلقاء البراميل المتفجرة عليهم، ذبحهم بالسكاكين، زراعة الألغام في مركباتهم، اختراق إيميلاتهم، مصادرة أموالهم، اغتيالهم معنوياً .. إلخ كل هذه الظواهر الإرهابية يمارسها كل العالم ضد كل العالم، الفرد ضد الفرد والمنظومات ضد الأفراد.. وبالنتيجة فإن الحضارة الراهنة التي ساهمنا جميعنا في بنائها [خطاب آينشتاين وبرتراند رسل، 1954] ذُهب بها إلى الهاوية.

لكل ظاهرة إرهابية، من الظواهر المشار إليها، مشايعون ومحازِبون. فالذين يتفهمون ذبح المعلم الفرنسي لأنه أهان "الدين" يشابهون أولئك الذين يتفهمون قتل الآلاف في ميدان رابعة لأنهم أهانوا "الدولة". الذبح شكل همجي من أشكال الإرهاب، ولكنه ليس الشكل الوحيد. فعبر تنظيراته المطوّلة والممتدة على ستة عقود أصر تشومسكي على القول إن كل التعريفات التي تضعها الولايات المتحدة للإرهاب تنطبق عليها تماماً. وهو ما يجري على النظام الفرنسي. فالأطروحة الرهيبة التي قدمها سارتر في العام 1956 بعنوان "عارنا في الجزائر" قدمت صورة عن بلاد غارقة في الإرهاب. غيرت فرنسا وجهها الإمبراطوري القديم ولبست وجهاً آخر يتحكم في عشرين دولة أفريقية ويعمل كل ما بوسعه على منع انتقال مجتمعاتها إلى الديموقراطية.

إن الانهيارات المتوالية للمحاولات الديموقراطية في أفريقيا، بدعم مباشر من فرنسا، تضع هذه الدولة المتحضرة في طليعة الواجهات الإرهابية. في آخر الأمر يفضي انهيار الديموقراطية إلى توالد ظواهر عنف وإرهاب وشبكات غير رحيمة، ما يعني غرق المجتمعات وتلاشيها. إن الحضارة في صورتها الفرنسية مأزومة، قلق وإرهاب الأقليات المسلمة واحدة من تجليات تلك الأزمة، داخل سياقاتها عديدة الطبقات.

وهنا ملاحظة فكّرت بها كثيراً: الناخب المتحضر في فرنسا يذهب إلى الانتخابات ويساهم في اختيار حكامه [يقول بورخيس: ليست الديموقراطية أكثر من لعبة أوراق كاذبة]. لا يبدي هذا الناخب أي اكتراث لما سيفعله نظامه المنتخب بالشعوب الأخرى، لا بمستقبلها السياسي ولا بحياتها الاجتماعية. إن الفرد الديموقراطي، هُنا، هو في نهاية المطاف غير ديموقراطي بشكل ما. كما لو أن الديموقراطية لا تشترط مناصرة الديموقراطية ولا الاكتراث لها.

في مارس الماضي، 2020، قالت دراسة لمركز بيو [أهم مركز قياس رأي في العالم] إن حوالي نصف الأميركيين البالغين يرون أن الإنجيل لا بد أن يكون مصدر الأحكام والأخلاق، وأن يتدخل في تشكيل الحياة. بينما قال ثلث البالغين الأميركان إنه لا بد وأن يكون الإنجيل أعلى من إرادة الجماهير، ومصدر "كل" التشريعات والأخلاق. في حين قال 66 في المائة من البروتستانت [وهم أكثرية المجتمعات] إنهم يشعرون أن نمط الحياة الأميركية الراهن يصادم معتقداتهم وأخلاقهم. مما أثاره ذلك المسح أيضاً هو أن أكثر من نصف الملاحدة الأميركان [56 في المائة] قالوا أن الحياة الأميركية الراهنة تصادم معتقداتهم وأخلاقهم.

لا يتعلق الأمر هنا بمسائل إحصائية بل بنظام ثقافي معين. هذا النظام الثقافي ليس مجرد رؤية للعالم Weltanschauung بل وضعاً ما ينفتح على كل ممكنات الصراع واللاستقرار. في الأسابيع الماضية نشر ترامب على حسابه في تويتر خطاباً وصله من كبير أساقفة. قالت الرسالة إن المظاهرات التي حدثت بعد مقتل المواطن الأسود ليست أكثر من محاولة لدحر "هذا الدين". وأن العالم، تقول رسالة كبير الأساقفة، قد انقسم إلى فسطاطين: إيمان لا كفر فيه، وكفر لا إيمان فيه. الرسالة قادمة من العصور الوسطى المبكّرة، تحمّس لها رئيس جديد لدولة قال رئيس قديم لها "سنحمل هذه الشعلة، شعلة الحرية، إلى كل بيت في العالم". هذه الحقائق تجعلنا نعيد التفكير في مواقفنا الرومانسية من الحضارة الراهنة. ففي العام 2015، بحسب دراسة لموقع YouGov قال ثلث الجمهوريين إنهم يؤيدون أن يقوم الرئيس الأميركي بقصف مدينة عقربة وقتل علي بابا. عقربة هي مدينة خيالية اخترعتها ديزني في العام 1992 في النسخة المبكرة من فيلم علي بابا، تلك النسخة التي قالت أغنية التيتر فيها: أنا علي بابا، قادم من بلاد سيقطع أهلها رأسك إذا لم يعجبهم وجهك. فيما بعد حذفت ديزني هذه الجملة لأنها أغضبت "السوق".

تعيش الحضارة في أزمة، الإنسان المأزوم يعود إلى مرجعياته ليجد فيها عوناً له. كل فرد سيحاول جرجرة هذه الحياة لتكون شبيهة بتصوره، وإذا لم يستطع فسيخيفها كي تستسلم. يعلم القاتل الشيشاني أنه لن يغير نظام العالم لكنه يهدف إلى ما هو أخطر من ذلك: الردع عن طريق الذعر.

ولكن لماذا يبدو الشيشاني موجوعاً على نبيه لذلك الحد؟ ربما لأنه يعيش في صدمة ما بعد حداثية. هذا اللون القاتل ليس قادماً من الماضي بل من المستقبل، من ما بعد الحداثة. إن بسط تعريف لما بعد الحداثة هو الصدمة، أن يجد الإنسان نفسه بإزاء تحديات وعوالم أكثر تعقيداً من قدرته على استيعابها فيغادر هذا العالم ذهنياً وفلسفياً، أي يدخل في زمنه الخاص، لاحداثته الخاصة.

كان قطب قد ابتكر لما بعد الحداثة الإسلامية مصطلحاً مثيراً: العزلة الشعورية. وهو تعبير تحتاجه ما بعد الحداثة الفنّية أكثر مما تحتاجه الظاهرة الإسلامية. منذ نهاية ثمانيات القرن الماضي تتحدث الدراسات عن موت ما بعد الحداثة، أي عن الخروج من الصدمة والعودة إلى الحياة. ذلك ما جعلنا نشهد رواجاً رهيباً للرواية البلزاكية وعودة فيفالدي على سبيل المثال [بقيت سيمفونية الفصول الأربعة منسية لأكثر من ثلاثة قرون إلى أن استعادتها هوليود في مداخل أفلامها، ومشاهدها الدرامية. ومع خروج الفن من صدمة الحداثة/ ما بعد الحداثة، عاد فيفالدي كما عاد فن الحداثة المبكرة بكل تنويعاته]. المجتمع المسلم في أوروبا انقسهم إلى طريقين: الخارجون من الصدمة، الباقون فيها. نجح الجزء الأكبر في الخروج من الصدمة، وبقيت أقليات على هامش الحياة الحديثة تعبر عن توترها وقلقها بسلوكيات متوحشة كما لو أنها تنتقم لنفسها من هزيمة يصعب فهمها. ستسمى تلك الأفعال: ثأر لله أو للرسول.

المجتمع الفرنسي، مثل سائر المجتمعات الحديثة، مجتمع مأزوم. أزمة الأقلية المسلمة هي أزمة فرنسية تخص المجتمع الفرنسي والحياة الفرنسية. وعلى فرنسا أن تعالج أزمة شعبها المسلم ضمن أزمة مركبة ومعقدة هي أزمة حداثتها على أكثر من مستوى. فقد قالت دراسة نشرت قبل عامين إن المسلمين اللندنيين الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة والمعزولة كانوا أكثر تفهماً للعنف والإرهاب من المسلمين الذين يعيشون في الأحياء المفتوحة والغنية.

"الإله" متعدد الطبقات والأشكال. فعندما حاول عقروب توزيع كتابه "الأذن الكبرى"، كما تحكي رواية الإله الصغير، فإن ما حدث كان التالي: قامت الأنظمة الشيوعية بقتل من ينشر الكتاب، قامت الأنظمة الإسلامية بقطع رقبته، وقامت المجتمعات المسيحية بصلبه. كل جهة أحالت موقفها إلى مرجعية يقع الخير العام في مركزها. في نهاية الأمر قال الإله عرقوب، وكان مجرد إله صغير: أستطيع أن أفعل أشياء كثيرة لأجلكم فأنا إله، ولكني سأعجز في النهاية إذا لم تتحدوا.

سيعيدنا الإله الصغير عرقوب إلى بيان برتراند راسل وآينشتاين منتصف الخمسينات، وما جاء فيه: إن هذه الحضارة الرائعة هي من صنعنا جميعاً وعلينا أن نقف معاً بمختلف ألواننا وعقائدنا لحمايتها.

م.غ.

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!