مع المتنبي ــ المعري ــ البردوني

د. ثابت الأحمدي
السبت ، ٢٩ أغسطس ٢٠٢٠ الساعة ٠١:٢٦ صباحاً
مشاركة |

ثلاثتُهم من عمالقةِ الأدب العَـربي، يناظرهم: شكسبير عند الإنجليز، وطاغور عند الهنود، وبودلير عند الفرنسيس، وجوته عند الألمان. وبين الثلاثة تقارب حد التشابه، خاصّة بين المعـرّي والبردوني، كما سنوضح هنا، مشيرين إلى تميُّز البردوني عن نظيريه.

اشتُهرَ الثلاثةُ بـ "التضمين" في شعرهم، والتضمين: إعطاء مجموع معنيين في معنىً واحد، كما ذكر ذلك السيوطي في "الأشباه والنظائر"؛ ولذا فشعرهم نضّاحٌ بالحكمة، مكتنز بالفلسفة وعمق النظر في الغالب منه.

المتنبي حلق عاليًا في فضاءات المعنى، فأكسبه رقة التحليق وخفة الحركة، خاصّة في الصُّـورة السّريالية التي أبدع فيها المتنبي أكثر من المعري؛ وتميز في ذلك. ولنتأمل مثلا هذا البيت وهو يصف فرسه:

إذا زلقت مشّيتُها ببطونها كما تتمشى في الصعيد الأراقمُ

وهي صورة تبدو أجزلَ بلاغة وأبرعَ سرياليّة من صورة امرئ القيس في ذات الصورة والمعنى والوصف، رغم دينامية الصورة وخفتها التي أكسبتها بالخيال والتخييل عند امرئ القيس:

مُكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معًا كجلمود صخرٍ حطه السيلُ من علٍ

المتنبي تقريريُّ النزعة، يجمع المعاني المتناثرة، ويقرب الفكرة في صورة لا يخلقها؛ إنما يجمع شتاتها ويقرب زواياها:

إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم

ذلك أن حياته بطبيعتها وجدلياتها قد انعكست في إبداعه، فالرجل عاش البذخ تارة، والحرمان تارة أخرى. الحل والترحال، المجد والتمجد.. تارة في القصر، وتارة في الكوخ، فجاء شعره مزيجًا من هذه المتناقضات في أبدع ما يكون. على العكس من المعري على وجه التحديد الذي عاش حياة واحدة بنَفَسٍ واحد ورؤية واحدة فقط. وإذا كان المتنبي قد مدحَ وهجا في نفس الوقت، كعادة الشعراء قديمًا، فإن المعري لم يعرف إلا الهجاء فقط طوال حياته.

المعري

يُعتبر المعري امتدادا لذات المدرسة؛ بل وبينهما من الوفاق النفسي ما بينهما، وقد أشاد المعري بالمتنبي في مجلس الشريف المرتضى ببغداد، وبقصيدته: لك يا منازل... إلخ التي أراد منها لفت نظر الشريف المرتضى إلى بيتٍ معيّن من القصيدة.

وإذا كان المتنبي قد حلق عاليا في ضفاف المعنى والفكرة فإن المعري قد غاص عميقا في مساماتها، بعمق فيلسوف متسائل عن المعاني الكبيرة حول الحياة والوجود والنفس والأديان والبعث.. إلخ. وظلت تساؤلاته مفتوحة لم يحسمها في الغالب:

في اللاذقية ضجة ما بين أحمد والمسيــحُ

هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يـصيــــــــحُ

كلٌ يعظِّم دينه يا ليت شعري ما الصحيحُ؟

وتعتبر قصيدته الشهيرة "غير مجدٍ في ملتي واعتقادي" هي الأشهر فلسفة والأكثر عمقا، جمع فيها كثيرا من التساؤلات المحيرة والأفكار الحائمة. ويلاحظ القارئ اختفاء الصورة السريالية التي برع فيها المتنبي، على حساب الفكرة العميقة التي يغوص في معانيها وأفكارها، كما هو الشأن في أغلب شعره المطبوع بنزعة التشاؤم، وهو تشاؤم مرتبط بالرؤية والفلسفة والفكر لا بالمزاج النفسي السطحي، كونه كفيفا أو فقيرا مدقعا. كما هو الشأن ذاته لدى الفيلسوف الألماني المتشائم آرثر شوبنهاور من المحدثين.

نعم.. هكذا.. حلق المتنبي، وهكذا غاصَ المعري. وبين الغوص عميقا، والتحليق عاليا مشتركُ البحث عن الحقيقة، أو تقريب الصورة، لإدراك المعنى؛ ذلك أن بعضًا من الأجرام لا تُدرك على حقيقتها إلا كلما ابتعدت عنها أكثر، كما هو الشأن في البعض الآخر لا تدرك يقينا إلا إذا فتّشتَ بين مساماتها الداخلية. ويبدو أن التحليق والغوص مذاهب تجريبية لدى الشعراء الكبار. وقد كان المتنبي إلى مذهب التحليق أقرب، كما كان المعري إلى مذهب الغوص أقرب.

البردوني

يُطلِقُ البعض على البردوني: "المعري الصغير"، ولستُ مع كلمة الصغير، فهو معري عصره باقتدار، ومقامه إلى المعري كجبل يناظر جبلا.

وفي تقديري فقد أفاد البردوني من المتنبي والمعري على نحو متوازٍ، جامعا بين تحليقات المتنبي وعمق المعري، مضيفا التضمين الذي يجمع الثلاثة معا، وموازيا بين "المنهجيتين".

احتسي موطني لظى يحتسيني من فم النار جرعة إثر جرعة

في هواه العظيم أفني وأفنى والعذاب الكبير أكبــر متعــة

وإذا كان المتنبي قد بزّ أقرانه سرياليا، فقد فاق البردوني المتنبي في هذا الجانب، كما في الصورة التي يصف فيها "مصطفاه" في صورتين معا في بيت واحد:

فتسحبُ الشمس ذيلا وتلبسُ الليلَ معطف

أستطيع الجزم أني لم أقف على معنىً يحمل هاتين الصورتين في مجمل ما قرأت من الشعر العربي، خاصة وأن البيت الواحد قد حوى صورتين اثنتين معًا، على العكس من بيت المتنبي الذي اقتصر على صورة واحدة، عدا المعنى في الصورة التي أبدع فيها النابغة الذبياني التي تشبه الصورة الثانية في بيت البردوني، في قول النابغة مخاطبا النعمان بن المنذر في واحدة من اعتذارياته:

فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسع

وإذا كان المعري قد غاص في لجج الأفكار العميقة تاركا إجابتها مفتوحة، فذلك ما اشتهر به البردوني أحيانا؛ إذ اشتهر بشاعر الأسئلة. حتى إنه ليسأل ويجيب في البيت الواحد أكثر من مرة بأوجز العبارات "سندباد يمني على مقعد التحقيق أنموذجا". ولا أظن أن ثمة شاعرا قد أبدع تساؤلا وتجاوبًا في الشعر وبأوجز المعاني كالبردوني.

أيضا قصيدة "أحزان وإصرار" التي تشبه كثيرا قصيدة المعري "غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي" بنزعتها الإنسانية وعمقها الفلسفي. ومثل "أحزان وإصرار" "فلسفة الجراح" القصيدة التي عرّى فيها الوجودَ ثم خاطبه وجهًا لوجه. ومثلهما معا "صراع الأشباح" التي فاق فيها "شوبنهاور".

الجدير بالذكر هنا هو الإشارة إلى نزعة التشاؤم التي جمعت الثلاثة بصورة متقاربة وإن كان المعري سيدهم. وقد تكلمتُ عن ذلك بتفصيلٍ في كتابٍ لي ينتظر الطبع: "نصف الكأس.. قراءة في تشاؤم الأدباء والفلاسفة".

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!