يبدو اليوم، بعد مرور 80 عاما، أن معركة غزة، التي بدأت بشكل "جزئي" يوم السابع والعشرين من أكتوبر، تحمل الكثير من أوجه الشبه فيما تحمله من متغيرات لمنطقة الشرق الأوسط على غرار ما حدث في أوروبا سابقا.
هل من أوجه للشبه بين معركة غزة وستالينغراد؟
تعرضت إسرائيل، يوم السابع من أكتوبر، لأكبر هزيمة استراتيجية منذ نشأتها، نتيجة هذا الاختراق الكبير على كافة المستويات الأمنية والعسكرية والمخابراتية، عبر جهة فاعلة غير حكومية (NSA)، تعيش في قطاع ضيق ومحاصر منذ 17 سنة، ظنت أنه مكشوف لها بكل تفاصيل حياة سكانه اليومية، وعلى أراضيها لا على أراضي الآخرين كما تعودت في كل حروبها.
في ظل حكومة هي الأكثر تشددا في تاريخ إسرائيل، تجمع ما بين التطرف القومي والديني، حدث هذا الاختراق الكبير الذي هدم سنوات طويلة من الدعاية الإسرائيلية التي سوقت من خلالها لنفسها في المنطقة والعالم على أنها قوة لا تقهر، قادرة على نقل خبراتها ونجاحاتها للآخرين في مواجهة المليشيات المسلحة، وهو ما دفع الجيش الإسرائيلي للضغط بكل قوته على الحكومة لاتخاذ إجراءات راديكالية عنيفة، واقتحام قطاع غزة في عملية برية موسعة. كل هذه الأوضاع، دفعت الغرب الجماعي بقيادة الولايات المتحدة، لتقديم دعم صارم وحازم وبلا خطوط حمراء لإسرائيل، الغرض الرئيسي منه قبل كل شيء، التأكيد على "سيادة" هذا الغرب، بعدما شعر أنه تحول من صانع للأحداث لرد فعل عليها، وصولاً لقيام حركات مسلحة غير حكومية تصور على أنها مجرد "ميليشيا" تعيش تحت الحصار، تهدد أمن وسلامة باقورة المشروع الغربي الذي صنعته واستثمرت فيه لعدة عقود.
التهاون والتراخي في اظهار أقصى درجات الحزم والشدة، يعني أن جميع حلفاء الغرب المعتمدين أمنيا على دعمه لا يمكنهم التعويل عليه، وتشجيع لأطراف أخرى دولية وغير حكومية على مزيد من تحدي الهيمنة الغربية. مع وجود إمكانيات لتوسع الحرب لتصبح إقليمية، وربما تمتد لعدة أقاليم أخرى ملتهبة حول العالم، ومن هذا المنطق السياسي لا العسكري، نتائج معركة غزة، وما ستسفر عنه، ستعيد تشكيل المنطقة وموازين القوة فيها على غرار معركة ستالينغراد، وتبدو أهميتها أكبر من غزة وإسرائيل نفسها.
الجدل حول السيناريوهات
عرضت مجلة تايم الأميركية، سيناريوهات أربعة أمام إسرائيل وحلفائها الغربيين للتعامل مع غزة. السيناريو الأول، التراجع عن الغزو البري، والاكتفاء بعقد صفقة تضمن الافراج عن كافة الأسرى، وربما توقيع هدنة طويلة الأمد. السيناريو الثاني، اقتحام غزة بريا بهدف القضاء على الفصائل الفلسطينية المسلحة، وحكم قطاع غزة بشكل كامل. السيناريو الثالث، القضاء على الفصائل ثم الانسحاب من القطاع. السيناريو الرابع، جلب لاعب جديد، لتولي السلطة في غزة.
تبدو إسرائيل، ولأول مرة في تاريخها، أمام خيارات كلها صعبة. السيناريو الأول، يعني فقدانا للهيبة، وتحطيما لصورة الدولة العسكرية النموذجية في قوتها، والأمنية المخابراتية في قدراتها، والشرسة في ردود أفعالها على كل من يهدد أمنها.
السيناريو الثاني، يتوقع أن ينتج كارثة كبرى في عدد الضحايا، ربما يفوق كل ضحايا إسرائيل في حروبها المتعددة ضد العرب منذ نشأتها، مع الحاجة لوقت طويل لإتمام مهمة الاجتياح البري الكامل لقطاع غزة، وهو أمر يبدو المجتمع الإسرائيلي غير مؤهل نفسيا ولا يقوى على تحمل تبعاته طويلة الأمد، مع ما ستنتجه من خسائر واستنزاف اقتصادي، يضاف لما سبق مزيد من الضحايا المدنيين في صفوف الفلسطينيين، وفي ظل حالة غير مسبوقة من الدعم الشعبي الدولي لغزة وسكانها، وزيادة في معدلات الوعي بالقضية الفلسطينية، وكل هذا يخصم من شرعية وصورة ودعم إسرائيل غربيا وحتى بين اليهود حول العالم، مع تولي إسرائيل مسؤولية إدارة القطاع وتوفير حاجات سكانه بشكل كامل.
السيناريو الثالث، يبدو شديد الصعوبة، وسيحتاج لوقت وعدد ضحايا كبير، وسيخلق في اليوم التالي لإتمامه مشكلة كبرى ربما تفوق في خطرها وجود الفصائل الفلسطينية.
السيناريو الرابع، يبدو خياليا وغير واقعي، السلطة الوطنية الفلسطينية ببنيتها الأمنية المكونة في الأساس من سكان الضفة، وفي ظل غلبة العامل العشائري داخل التركيبة السكانية الفلسطينية، لن يتم قبول حكمها من قبل أهل غزة، وسينظر إلى أي سلطة على أنها "خائنة" فاقدة للشرعية جاءت للحكم على ظهور الدبابات الإسرائيلية.
التداعيات
الذي يبدو مؤكدا، أن المنطقة بعد يوم السابع من أكتوبر لن تكون كما كانت قبلها، وأن تداعيات هذه الحرب ستمتد آثارها لما هو أبعد من المنطقة وغزة وإسرائيل. وكما أن إسرائيل ومن خلفها الغرب خياراتهم كلها صعبة، يبدو الأمر ذاته بالنسبة للقوى العربية القادرة والمؤثرة.
حال تمكنت إسرائيل من اقتحام قطاع غزة بريا، يتوقع حدوث مقتلة عظيمة لسكانها، وفوضى بعد ذلك وفقدان للسيطرة، وشيوع حالة من الغضب والسخط الشعبي، توفر مادة خام للجماعات الإسلاموية والمتطرفة منها، قد تؤدي لدخول المنطقة في مرحلة جديدة من موجات الإرهاب والتثوير، على غرار ما يسمى "الربيع العربي"، ولكن بشكل أكثر عنفا وتوسعا.
تدخل حلفاء إيران، حال تعرضت الفصائل الفلسطينية لضرب قاصمة لحمايتها من الزوال، قد يؤدي لتوسع الحرب، وربما تستغل روسيا والصين، التورط الغربي، وتفتح جبهات في بحر الصين الجنوبي، وأوروبا الشرقية، وهذا بدوره يدفع أطرافا أخرى لديها مشكلات إقليمية معلقة لاستغلال الانشغال الغربي في الشرق الأوسط، لحسم خلافاتها مع جيرانها عسكريا، على غرار ما قامت به أذربيجان في حربها الأخيرة مع أرمينيا.
فرضية انتصار الفصائل الفلسطينية، وهي فرضية واردة بالنظر إلا أن بقاءها في حد ذاته سيتم اعتباره انتصارا كبيرا مقابل فشل إسرائيلي في تحقيق الأهداف المعلنة لعمليتها العسكرية، وفي ظل عدم وجود حل شامل أو على الأقل جزئي للحصار الذي يتعرض له سكان غزة منذ 17 عام، والوضع الإنساني المزري، والحاجة لعملية إعادة إعمار، وغيرها من المشكلات، ستؤجل الصدام، وربما تؤدي لتفجره مرة أخرى بشكل أكثر عنفا.
الخاتمة
قد يبدو سيناريو "النتيجة الرمادية" هو المخرج لكافة الأطراف المختلفة، عبر تفاهم عربي أميركي، يؤدي لضغط على إسرائيل والفصائل الفلسطينية، لعقد صفقة كاملة، بموجبها توقف إسرائيل عمليتها العسكرية، مدعية أنها حققت أكبر قدر ممكن من الخسائر في قوة الفصائل المسلحة الضاربة، مع ما لحق بالقطاع من دمار وقتلى يفوق عدد حتى كتابة هذا المقال 8000، والافراج عن كافة الرهائن. ثم البدء في مفاوضات فورية، تفضي إلى توقيع اتفاق هدنة طويل الأمد، بضمانات عربية أميركية، ووضع إطار لرفع تدريجي للحصار لتحسين الأوضاع المعيشية لسكان غزة، وبدء عملية إعادة الاعمار، ومنح المواطن الغزاوي مكتسبات حقيقية.
في النهاية، تدرك الفصائل المسلحة بأنها لا تقوى على تحرير فلسطين من غزة، وتحركها دافعه الرئيس تحسين شروط الحياة والعيش في غزة، وقد طرح قادتها أكثر من مرة استعدادهم لعقد هدنة طويلة الأمد، وقد يكون هذا هو المخرج في إطار صفقة يربح منها الجميع، تتم بجهود عربية، وتساعد فيما بعد على بدء مفاوضات حل شامل للقضية الفلسطينية، وتسحب ورقتها من يد القوى الإقليمية غير العربية، التي تسعى لاستغلالها للمقايضة والحصول على مكتسبات خاصة بها و/أو تعطيل مسار التنمية العربية، وجهود السعي نحو الاستقرار، وتقدم نموذج للحل العربي الحازم للحصول على الحقوق، والحريص على الدماء الفلسطينية.