لماذا أُتابع عمليّات النزوح الإسرائيليّة المُتصاعدة من الشّمال والجنوب إلى مُخيّمات في صحراء النقب بشغفٍ وابتِسامة؟ وهل أعادت حرب غزّة التّاريخ نفسه معكوسًا؟ إليكُم قراءةً مُختلفةً للحاضِر والمُستقبل

عبدالباري عطوان
السبت ، ٢٨ اكتوبر ٢٠٢٣ الساعة ١١:٣٨ مساءً
مشاركة |

كواحدٍ من ملايين اللاجئين الذين أجبرتهم عصابات دولة الاحتِلال الإسرائيلي الإرهابيّة على الرّحيل بالقوّة، والمجازر الترهيبيّة، والعيش بالتّالي في مُخيّمات اللّجوء في دول، سواءً داخِل فِلسطين المُحتلّة، أو في دُول الجِوار العربي، أعترف بأنّني أُتابع ظاهرة النزوح الإسرائيليّة المُتصاعدة مُنذ حرب السّابع من الشّهر الحالي (تشرين) انطِلاقًا من غزّة باهتمامٍ شديد رُغم الفارق، فلم أكن أتصوّر في حياتي أن أُشاهِد الإسرائيليين يشربون من الكأس نفسه، وعلى أيدي رجال المُقاومة البواسِل.

دولة الاحتِلال الإسرائيلي أرادت نكبةً ثانية للفِلسطينيين، واستخدم جيشها الطّائرات الأمريكيّة الحديثة، للتّمهيد لها بقصفٍ وحشيٍّ غير مسبوق، وارتِكاب مجازر أُخرى، وتطهير عِرقي وحرب إبادة على أن يتلوها عمليّة تهجير مِليونين من أبناء القِطاع إلى صحراء سيناء في مُدُن خِيام جديدة، وإعادة التاريخ 75 عامًا إلى الوراء.

***

بعد العمليّة الهُجوميّة التي هندَستها “كتائب القسّام” الحمساويّة وعُقولها الجبّارة التي جسّدت أكبر هزيمة تلحق بـ”إسرائيل” مُنذ نشأتها، وأدّت لمقتل 1400 إسرائيلي وإصابة 3000 آخَرين، وأسْر 250 جُنديًّا ومُستوطنًا، ها هُم الإسرائيليّون يعيشون نكبتهم الخاصّة بهم، وينزحون من مُستوطناتهم الباذخة إلى مُخيّمات في صحراء النقب، مُشابهة لمُخيّمات ضحاياهم ومشروعهم العُنصري الصّهيوني في فِلسطين وخارجها، مع فارقين أساسيين: الأوّل أنها مُلوّنة هذه المرّة بألوان العلم الإسرائيلي، والثاني: أنّ من يُشرف على بنائها ورعايتها دولتهم وجيشهم، وليس وكالة غوث اللّاجئين الفِلسطينيين (الأونروا).

الأرقام الرسميّة تقول إن نصف مليون نازح إسرائيلي من 28 مُستوطنة مُحاذية للحُدود اللبنانيّة في مَنطقة الجليل المُحتل، وأكثر من ضِعف هذا الرّقم من مُستوطنات غِلاف قِطاع غزّة في الجنوب يُقيمون حاليًّا في غُرفٍ فندقيّةٍ مُؤقّتة، أو جرى توطينهم في مُخيّمات في صحراء النقب قُرب إيلات على البحر الأحمر.

هؤلاء هربوا من صواريخ المُقاومة، اللبنانيّة من الشّمال، والفِلسطينيّة في الجنوب، ولا نستغرب أن يكون حالهم كمن يستجير من الرّمضاء بالنّار، لأنّ صواريخ أُخرى إضافيّة ستُلاحقهم غير الصّواريخ الأصليّة، ونحن نتحدّث هُنا عن الصّواريخ اليمنيّة التي اعترضت بعضها بارجات الأسطول الأمريكي في البحر الأحمر ومنعت وصولها إلى إيلات والنقب، ولا نستبعد، أن نرى فيما هو قادمٌ من أيّام صواريخ قادمة من الجبهة الأردنيّة، في ظِل عمليّات التّحشيد الشّعبي الغاضِب والمُتصاعد بالقُرب مِنها أيضًا.

الأمر المُؤكّد أنّ هؤلاء النازحين الذين باتوا يُشكّلون عبئًا ثقيلًا على الميزانيّة الإسرائيليّة المُثقلة بالأزَمات الاقتصاديّة المُتوالية، سواءً بانهِيار البُورصة والعُملة المحليّة (الشيكل)، أو توقّف عجلة الإنتاج بصُورةٍ شِبه كُلّيّة بسبب استِدعاء 320 ألف جُندي من جُنود الاحتِياط للمُشاركة في حرب غزّة، وربّما جبهات أخرى يتم فتحها قريبًا، فهؤلاء يُشكّلون عصب عجلة الإنتاج الإسرائيليّة في كافّة المجالات.

هؤلاء النّازحين، سواء جاءوا من الشّمال أو الجنوب، لن يعودوا إلى مُستوطناتهم خوفًا ورُعبًا، لأنهم فقدوا الثقة بقُدرة الجيش الإسرائيلي على حِمايتهم أوّلًا، وتطوّر القُدرات التسليحيّة واللوجستيّة لفصائل المُقاومة الفِلسطينيّة ثانيًا، ولعلّ الهُجوم على مُستوطنات وبلدات الجنوب وتحريرها في بداية حرب غزّة الحاليّة أحد أبرز الأدلّة الدّامغة في هذا الصّدد.

تركيز حديثنا على مُخيّمات اللّجوء الإسرائيليّة الجديدة في النقب لا يعني أنّنا ننْسى النّزوح الأهم والأكثر “فخامة” المُتمثّل في الهجرة المُعاكسة إلى أوروبا وأمريكا وكندا، فالأرقام الرسميّة تُشير إلى رحيل ما يَقرُب من 250 ألف إسرائيلي من حملة الجنسيّات المُزدوجة إلى هذه الوجهات، وهذا الرّقم قد يتضاعف عدّة مرّات بعد إعادة فتح المطارات، وعودة طائرات الشّركات العالميّة التي أوقفت رحَلاتها إلى تل أبيب لانعِدام الأمن بسبب صواريخ المُقاومة المُباركة التي وصلت إلى مطار تل أبيب وحيفا ويافا، هذا إذا عادت، وإلّا ليس أمامهم إلّا رُكوب البحر إلى اليونان وقبرص إيثارًا للسّلامة.

***

لم نكن نتصوّر، نحن أبناء النّكبة، ومواليد المُخيّمات أن يأتي يوم نرى فيه من شتّتونا وأبعدونا من بُيوتنا بالقوّة الاستعماريّة سيجدون أنفسهم في الخِيام، وبفِعل هجمات رجال مُقاومة من أبناء من طردوهم وسرَقوا أراضيهم، وقتلوا أطفالهم، وفرضوا عليهم حِصارًا خانقًا لأكثر من 17 عامًا وقطعوا عنهم الماء والكهرباء، والهواء لو استطاعوا.

أخيرًا نسأل عمّا إذا كان الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي كان يعلم بمُخطّطات النّزوح الإسرائيليّة هذه عندما ردّ على طلب أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة الأمريكي الصّهيوني بترحيل أبناء القِطاع إلى مدينة مُخيّمات على أرضِ سيناء، بسُؤالٍ مُفحم وهو: لماذا لا تأخذوهم إلى صحراء النقب؟

سواءً كان الرئيس يعلم، أو قالها على سبيل المُزاح، فإنّ النّزوح قد تم، ولكن ليس من قِطاع غزّة، وإنّما من يهود مُستوطنات غِلافه، وفي النّقب أيضًا، والقادم أعظم، وسُبحان مُغيّر الأحوال.

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!