أزمة حرق القرآن، اختبار حرية التعبير

د. مروان الغفوري
الاربعاء ، ٠٢ أغسطس ٢٠٢٣ الساعة ١٢:٢٢ صباحاً
مشاركة |

في مسرحية “المنصور” لهاينرش هاينه يجلجل صوتٌ قائلاً “هُناك حيث تحرق الكتب سيحرق في النهاية الإنسان”. لم يكن هاينه قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره حين كتب ذلك العمل عن آخر ملوك العرب في أسبانيا. هبّ أسبان غاضبون، كما في المسرحية، وأحرقوا القرآن.

هاينه الألماني كان يهودياً، أحرقت كتبه مرّتين: مرّة في ثلاثينات القرن التاسع عشر، لأسباب سياسية، ومرّة بعد مائة عام بدوافع نازية. في المرّة الأولى نزعت عنه ألمانيته وفرّ إلى فرنسا، وفي المرّة الثانية، بعد مائة عام،أضرمت النيران في كل ما هو يهودي.  

كان تاريخ إحراق الكتب مرتبطاً على نحو وثيق بتاريخ إحراق البشر، أو على الأقل استباحة كل ما يخصهم. يبدو الأمر أكثر رعباً حين يتعلّق بالكتب المقدسة. يجادل الكاتب الألماني أولريش بيك قائلاً إن الكتب المقدسة، كلها بلا استثناء، تمثّل مسألتين مهمتين  للبشرية: أنها وثائق تاريخية مهمة، وأنها جزء أصيل من الموروث الروحي للإنسانية. في الحالتين، يجادل بيك، يعتبر المساس بتلك الكتب جريمة ضد الإنسانية. نقد الكتب المقدسة مسألة أخرى.

تصدر القرآن والتلمود قائمة الكتب التي تعرضت للحرق على مر التاريخ. أما أول عملية كبرى لإحراق الكتب فتعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، في الصين. في الحقبة تلك، في عهد كين هوانغ، أحرقت الكتب كلها،بكل تنويعاتها، ومعها أحرق الفلاسفة والشعراء. أراد هوانغ، كما يؤكد المؤرخ الصيني لويس تشان، أن يمحوَ كل التاريخ حتى لا تمكن مقارنة حكمه بطريقة أسلافه. كان يخاف من الماضي ويخشى الكتب.

 بين الحضارات وداخل الحضارة نفسها أحرقت الكتب. بين الأديان وداخل كل دين. الحكام، المؤسسات الدينية، الغزاة. تعددت الأسباب والدوافع وتواطأت على شيء واحد: رأى فيها حامل الشعلة تهديداً له. احتفظ شعب المايا بكتبه المقدسة في أماكن منيعة، أودعوا فيها معنى الحياة التي هم عليها. غير أن الأسبان عرفوا الطريق إليها، جمعوها في أكوام وأشعلوا فيها النار. كانت مليئة بالشياطين والخرافات، وفقاً للتدوينات التي تركها الأسقف لاندا، قائد الحملة. شعر الأسبان بخطورة أن يكون للشعب المهزوم مرجعية روحية تمدهم بالشغف والمقاومة والمعنى. ذلك ما فعله المغول ببيت الحكمة في بغداد، فلا معنى لنصرهم العسكري إن بقيت الكتب تقول وتحكي وتلهم. أخذ تعبير Libricide  أو إبادة المكتبات مكانه ليصبح واحداً من أكثر المباحث العلمية إثارة. فعلى مرّ التاريخ كانت هناك كتب وحرائق. في أحداث عديدة أتت النيران على مخطوطات يستحيل تعويضها، كما حدث مع مكتبة الاسكندرية في القرن الرابع الميلادي. داخل الحضارة الإسلامية تكرّرت عمليات إحراق الكتب، غالباً لأسباب دينية. 

كُتب الدين والأدب، بوصفهما آليتين تحاولان فهم العالم،هي الأكثر عرضة للإحراق. لا تزال كتب الأدب تحرق حتى الساعة، وتبرز الولايات المتحدة في طليعة الدول التي تتعرض فيها الآداب للإحراق.  في السنوات الماضية، أثناء جدل انتخابي، طالب ساسة أميركيون بإلقاء رواية "محبوبة" في النار. محبوبة هي الكتاب الذي أنجزته الروائية الأميركية توني موريسون، الحاصلة على نوبل في الآداب، ويحكي قصة ظلم وقعت لأسرة سوداء منتصف القرن التاسع عشر. في الرواية يبدو الوجه الأبيض لأميركا مروّعاً، وهو ما دفع الجمهوريين لرفض تدريس الرواية في المدارس  والمطالبة بإحراق الكتاب. بل إن كتاب هاري بوتر، للإنجليزية رولينغ، لا يزال يتعرض للإحراق في مناطق عديدة في أميركا. يقول المتدينيون المسيحيون إنه كتاب شياطين. 

لا ينتمي فعل إحراق الكتب إلى الحق في التعبير، بل هو النقيض كلّياً. إذ تنطوي عملية إحراق الكتاب على ما هو أكبر من قدّاحة النار. يُشيطن الكتاب والجماعة البشرية معاً. الموروث الروحي بالنسبة للجماعة البشرية هو جزء أصيل من بنيتها الوجودية والتاريخية، أي من ماهيتها. وغالباً ما تشعر الجماعة المتدينة إنها ستصبح بلا معنى إن فقدت موروثها الديني، أي كتابها. يتعذر عملياً شيطنة كتاب واستثناء أهله. فالجماعة التي تتغذى على الشياطين لا بد وأنها ملعونة مثل شياطينها. الإنسان ما يقرأ وما يعتقد. إن كان الكتاب قد حصل على حكم الإحراق فإن الشفاه التي ستردد معناه ونصّه لا بد وأن تحرق أيضاً. تلك هي الوسيلة الوحيدة لإخفاء الكتاب الملعون من الوجود. الشاب الذي أحرق القرآن أمام مسجد في السويد ألقى خطاباً عبر مكبر الصوت وصف فيه المسلمين بالسرطان وطالب باستئصالهم. أحرق الكتاب وأبدى استعداداً لا شك فيه لإحراق أصحاب الكتاب إن كان في السلطة.

إن الكتاب مادة تعبيرية، ومن حقّه أن يجد له مكاناً في فضاء القول. الحكم بإحراقه هو مصادرة إجرامية لحقّ الكتاب في الوجود. لا يمكن أن تؤدي حرية التعبير إلى إهدار حق "الكتاب" في قول ما يشاء، وإلا فإنها حريّة تعبير ضد حريّة تعبير أخرى. إذا ألغت حريّةٌ حريةً أخرى فإن المناخ الناتج عن هذا التدافع يصبح فاشياً، بعيداً كل البعد عن أساسيات الديموقراطية الليبرالية.

ترتبط حريّة التعبير بشبكة من الحريّات والحقوق الأخرى، فهي ليست امتيازاً طليقاً في غابة فارغة. لا ينبغي لذلك الحق، لتلك الحرية، أن تبتلع نفسها، أو أن تؤول إلى امتياز ثقافي وفلسفي لجماعة بشرية دوناً عن أخرى. كما أن الحق في التعبير سيغدو لا-أخلاقياً إن كان سيزعزع مناخات التسامح والتنوّع الخلّاق، وحين يسهِم في تقسيم المجتمعات إلى فضلاء وشياطين. جادل جون ستيوارت ميل في "الحريّة" قائلاً إن من حق المرء أن ينعت المحتكرين بالمجرمين، وأن يصف أعمالهم بأنها عدواناً على المجتمع. غير أن ذلك الاتهام سيصبح إثارة للشغب، مخالفاً للقانون، فيما لو تردّد أمام متظاهرين يقفون عند متجر.

على مرّ التاريخ كان ثمّة بعدٌ طقوسي في إحراق الكُتب، كما ترى أستاذة الجماليات سجوهولم. يتطهّر المجتمع الذي يحرق الكتب، يتخلص من الشياطين والخطايا التي قد تجلب له الفأل السيء. الآخرون الذين يصرّون على الاحتفاظ بشياطينهم ينالهم ما سينال كتبهم. حاملو الشعلة يرجون تطهير مجتمعهم من الرجس، أي الكتاب، وسدنته.  الجماعة البشرية التي ترى كتابها يحترق تدرك يقيناً أنه لم يعُد من حقّها أن تعبّر عن ذاتها. وكما هي النبوءة الخالدة لهاينرش هاينه فإن الإنسان سيلقى به في النهاية في النار نفسها.

يصدُر محرقو الكتب في الغالب عن رؤية شاملة للعالم، أي عن إيديولوجيا. في "بائع الكتب في كابول" استطاعت الروائية النرويجية آسني سييرستاد أن ترينا وجه سلطان، البائع، وهو يخبرها ساخراً عن مكتبته التي أشعل فيها الجهاديون والشيوعيون النارَ للأسباب ذاتها. كانوا يحاولون تطهير مجتمعاتهم من كتب الشياطين والشعوذة، تماماً كما فعل الأسقف لاندا مع كتب المايا. حمل الشيوعيون على الكتب التي لا تساعد على صناعة "الإنسان السوفيتي"، وأحرق الجهاديون الكتب التي لا تسهم في صناعة المؤمن الحق. الرجلان، الجهادي والشيوعي، أرادا تطهير المجتمع مما هو رجس وشيطاني.  

غالباً ما تحرق الكتب المقدسة لدواع تطهّرية. التطهرية فعل ديني عميق، أو هي الدين نفسه محاولاً فرض إرادته العليا على ما سواه من الأفكار والرؤى والطقوس. لا تنتمي الطقوسية الطهرانية إلى نظام الحق في التعبير، بل إلى الجهادية والواحدية اللاهوتية. فالجماعة التي تحرق كتاباً مقدّساً إنما تكون قد قرّرت فرض هيمنتها على الجماعة الأخرى. إحراق الكتب، في هذا السياق، ينتمي إلى زمن الحروب الدينية، وإلى حد بعيد إلى الحقبة الاستعمارية. وفي المجمل لا يمكن عدّه فعلاً مشروعاً في مجتمع حديث. في القرن السابع عشر رأى جون ميلتون، الشاعر الإنجليزي الملحمي، في إحراق الكتب "عملاً من أعمال الإبادة الجماعية" أيّاً كانت الذرائع. قدم التاريخ ما يعزز رؤية جون ميلتون، إذ لطالما اتسعت محارق الكتب حتى ابتلعت أصحابها.

ما من سبيل إلى القول إن إحراق القرآن يعزز حريّة التعبير، ولا حتى يصدر عنها. فالقرآن نفسه تعبير واسع يأخذ مئات الصفحات. ثمة مشهد مثير في رواية روبنسون كروزو لدانيال ديفو. يجد كروزو نفسه على جزيرة مهجورة، وبعد وقت يصل إليها رجلٌ هارباً من الموت. يؤسس الاثنان مجتمعاً بشرياً صغيراً ويبنيان ما يحتاجانه في سبيل الأمن والعيش. يتساندان، يشعران بالأمن معاً. ثم يحدث أن يسخر جمعة، اسم الرجل الآخر، من الكتاب المقدس الذي يحمله روبنسون كروزو. أدت تلك السخرية إلى نزاع أنهى أول مجتمع بشري على جزيرة لم يطأها البشر من قبل. 

الادعاء بمطلقية حرية التعبير في أوروبا هو ادعاء بيروقراطي أكثر منه فلسفي،يردده موظفون لا يملكون الكثير من الحيلة أمام المسائل المركبة. فالمقدسات لدى العالم الحديث، ما لا ينبغي أن تناله السخرية، لا حصر لها. وعن حقّ قال الناقد الألماني الأشهر مارسيل رانيسكي إن مقالة تسخر من غوته أو شيللر لن تجد لها مكاناً لدى أي صحيفة ألمانية.

ثمة طبيعة وظيفية كامنة في حرية التعبير، وهي أن تعزز التنوّع الخلاق لا أن تؤدي إلى نقيضه. وأن تكون هي نفسها خلّاقة وإنسانية، وفي أحيان كثيرة بطولية. حين تأخذ حرية التعبير شكلاً مبتذلاً وعداونياً، وتصير إلى بروباغاندا تستهدف حرية آخرين، فإنها تفقد انتماءها إلى قيم العالم الحر.

المقالة منشورة على موقع مواطن.

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!