أردوغان الذي رأيت!

خالد الرويشان
الجمعة ، ٠٢ يونيو ٢٠٢٣ الساعة ١٢:٠٧ صباحاً
مشاركة |

مع أردوغان في أزقّة صنعاء القديمة! 

أردوغان الذي رأيت!

العالم منقسمٌ حول أردوغان والأتراك أيضاً!

وهذا طبيعيٌ جداً ، لأنّ هذا الانقسام  المتنافِس في ظنّي كان المحفّزَ الأكبر للرجل والباعث لكل نجاحاته منذ ثلاثين عاماً على الاقل وحتى اليوم. 

لكن المفارقة تظل أنه كلّما زاد الانقسام حوله فاز بعنادٍ مدهش وانتصر باستحقاقٍ مُبهِر وعبر صناديق الاقتراع.

في 2005 وخلال ساعاتِ أمسيةٍ رمضانية طويلة وغريبة رافقتُ فيها أردوغان رئيس الوزراء التركي حينها عشية 25 أكتوبر في 2005 ونظّمتُ أثناءها حفلاً إنشادياً على شرفه ووفدِه المرافق في مسرح الهواء الطلق المطل على بانوراما المدينة القديمة.

خلال تلك الساعات بوقائعها المفاجئة ربما تكشّفَت لي بعضٌ من ملامح الرجل الذي بدا لي أنيقاً ووسيماً مثل نجمٍ هوليودي. لكنه يخفي تحت إهاب شخصيته الظاهرة الأنيقة محارباً عنيداً وقويّاً وفريداً.

من التاسعة مساءً وحتى الواحدة بعد منتصفِ ليلةٍ رمضانيةٍ باردة كنا مع أردوغان خلالها في شوارع صنعاء القديمة ومع أطفالها الرائعين وبيوتها الدافئة في رحلةٍ خرجت عن ما كان مخططاً لها!

كنتُ أشرح له تاريخ المدينة ومعمارها بينما كانت عيناه تبحثان طوال الوقت عن أطفال الحارات! وهذه إحدى معالم شخصيته! 

تعوّد الساسة والقادة العرب والمسلمون أن تكون زياراتهم قبل وبعد رمضان! 

لكنّ اردوغان العملي المزدحم شديد النشاط سيّان عنده رمضان أو غيره. وهذا مَعْلَمٌ آخر من معالم شخصيته. 

الزيارة في ظاهرها اقتصادية لكنها كانت في الاساس طلباً لتصويت اليمن في منظمة المؤتمر الإسلامي لانتخاب المرشّح التركي أكمل الدين إحسان أوغلو أميناً عاماً للمنظمة والذي فاز بالمنصب بعد أسابيع. 

كان التخطيط للأمسية أن تكون في المسرح فحسب وحتى يشاهد قصور صنعاء المضاءة ويغادر .. وإذا بأردوغان يفاجئ الجميع بما لم نتوقع! 

فجأةً ، رأى طفلاً وجرى بعده ليسأله ما اسمك؟ وأين بيتكم؟ وهل تسمح أن نزوركم؟ فأشار الطفل إلى البيت الذي كان على مدخل بوابة المسرح والمفاجأة كانت أنه بيت حارس المسرح الرجل الطيب العم يحيى الكدَس!

كنا مذهولين ونحن نتكدّس في الغرفة الصغيرة وأردوغان وزوجته بين أطفال الكدَس وهو يسألهم عن أسمائهم ثم يطلب من كل واحدٍ منهم أن يُسمعه سورةً من سور القرآن الكريم! وبعد أن سمعهم وقف مودّعاً لهم وليوزّع جعالة للأطفال الأربعة .. وغادر ونحن وراءه! 

وعندما عبرنا السايلة وصعدنا ماشيين مدخل بالرّوم أو باب الرّوم صوب قلب المدينة فوجئنا بأردوغان يمشي وحيدًا ناحية اليمين تحت بيت الشهاري والأمن وبعثة الشرف والوفد يجرون بعده! وإذا به ينحني على معاق فوق عربية وأخذ اسمه وكلّم السفير التركي كي يأتي به إلى تركيا لعلاجه .. والغريب أننا لم نكد نمشي قليلاً حتى رأى أردوغان معاقاً آخر جالساً على عربيته وذهب إليه إلى الرصيف وأضاف اسمه على سابقه! وبالفعل ومن خلال متابعتي سافر المعاقان إلى تركيا بعد أيام! ..  

كنتُ أتحسّر في هذه اللحظات لأنّ الرجل لايبدو مهتماً برؤية معالم صنعاء القديمة التي تم تبييض بيوتها في مهرجان صنعاء عاصمة للثقافة العربية 2004 .

كان أردوغان مشغولاً بعينيه وروحه صوب أطفال الشارع ، ولذلك ، لم نكد نصل لحارة القاسمي حتى جرى صوب طفلٍ في السادسة من عمره وسأله بنفس الطريقة .. وأشار الطفل نحو بيته الصغير! لكن أحد أبناء الحارة شاورني بسرعة واقترح بيتاً آخر  ودخلنا البيت الكبير المْقترح وصعدنا للدور الثالث .. ولم يكن صاحب البيت موجوداً! 

وانتظرنا الشاي دون جدوى! فقد حاولت الأسرة في الدور الأول إيصال الشاي لكن الدرج كان مزدحماً بالأمن والمرافقين! وكل هذا الإرباك من أردوغان وتلقائيته المفاجئة في الشارع وغرابة كسره لكل بروتكول وبساطته الشعبية النادرة!  .. 

وغادرنا البيت في القاسمي صوب ميدان الأبهر 

وحين رأى أردوغان بائع التّمِيز الساخن  وقف أمامه وطلب رغيف التَّمَيْز وبدأ بالتهامه مع زوجته! 

همس في أذني أحد رجال الأمن متسائلاً :

الظاهر أنّ الرَجّال خرج بغير عشاء من القصر الجمهوري أو كيف! .. أجبته ضاحكاً: 

قد جُعنا نحن في هذا المشوار الطويل المرهق ووقفاته وسط هذا البرد! 

وعدنا للمشي صوب باب اليمن ليتوقف أردوغان لالتهام الحلويات الصنعانية وبعضُها كما هو معروف تركيٌ في الأصل.

وأخيراً خرجنا من باب اليمن لنجد السيارات بانتظارنا .. وعاد كلٌ إلى مأواه!   في تلك الساعات الأربع ربما أكون قد تكشّفتُ بعضاً من ملامح هذه الشخصية: 

بساطة القوّة وقوّة البساطة

السياسي يمتزج بالترويجي والإعلامي بشكلٍ تلقائي وحقيقي في هذه الشخصية

حبُّ الاطفال العارم والتحنّن إليهم والعطف على بسطاء الناس وخدمتهم

العلاقة بالشارع أولاً وثانيا

تحت إهاب هذا الرجل الوسيم الأنيق ثمة محاربٌ عنيدٌ وشديد درجة المغامرة!

يكفي أن نتذكّر وقفته الشجاعةك مع قطر حين أرسل جيشه لحمايتها من ضربة سعودية متوقعة حذر منها أمير الكويت الراحل لو تتذكرون!

تلك كانت لمحاتٍ سريعة عن تلك الزيارة وعن شخصية بطل تلك الأمسية الرمضانية الباردة المحارب العنيد رجب طيب أردوغان!

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!