ما في العترة ثائر

د. مروان الغفوري
الجمعة ، ٢٧ مايو ٢٠٢٢ الساعة ٠١:٠٥ صباحاً
مشاركة |

توفي مظفر النواب، أخيراً، في واحد من مشافي "خنازير هذا الخليج"، كما يحيل إليهم في أكثر من نص. في سبعينات القرن الماضي، وكان في العقد الرابع من عمره، قدم عمله الأكثر شهرة "وتريات ليليّة". كان نصّاً دينيّاً ينتمي إلى "الأدب الملتزم"،حيث يضع الكاتب على عاتقه مهمة الدفاع عن قضية بعينها. في الوتريات هجا النواب الحكام العرب، ولم يقل لماذا استحقوا هجاءه. جاء بالقدس من وقت لآخر، ولم تكن القدس سوى ذريعة لمواصلة الهجاء. ثمة سبب مكتوم، ضامر، وخفي يدفعه لكل ذلك الغضب وتلك الثورة. فالرجل الذي أعاد تلاوة نصّه مئات المرات على مئات المسارح، صارخاً "لا أستثني منكم أحدا" كان يسافر بوثيقة سفر ليبية تحصّل عليها من الزعيم الليبي، وكان يلقي النص إياه أمام الزعيم السوري الذي لفرط إعجابه بنصوصه أسكنه في بلاده وأكرمه. عدو الأنظمة القمعية، نصير الفقراء والمظلومين الراحل مظفر النواب كان صديقاً حميماً لأكثر تلك الأنظمة بربرية على مر التاريخ. وقف مظفر النوّاب إلى جوار القذافي، حين كان الأخير يشنق المثقف على نصف كلمة، وألقى قصائده التي لا يستثني منها أحداً. في الساحة الخضراء يتظاهر القذافي من أجل فلسطين، والنّواب يرفع يديه صائحاً القدس عروس عروبتكم، ثم يجلس إلى جواره. عاش مجده مع الرجلين: الأسد والقذافي، وكانت الإذاعة الليبية كما التلفزيون الليبي يذيعان نصوص "أبناء القحبة لا أستثني منكم أحداً" ليل نهار. 

 تروي الوتريات رحلة هروبه من السجن إلى الأهواز، وكان قد دخل السجن في سياق صراع قاتل على السلطة بين القوميين والشيوعيين العراقيين. خسر الشيوعيون المواجهة، كما جرى في مصر عبد الناصر، وذهبوا إلى المعتقل. كان معهم شاعر شاب على مدخل الثلاثين من عمره اسمه مظفر النواب. انتصرت مجموعة فاشية على مجموعة فاشية أخرى، ما من بطولة في هذه السيرة. قصة نعرفها أيضاً من سيرة الإخوان المسلمين والأنظمة "الواقعية". يتشابه الأمميون، من الحُجّاج والسكارى، في الخيال والرحلة والنهايات،وفي بكائيات السجون. 

امتدت حياة النوّاب لحوالي تسعة عقود، ولا يمكن اختزالها في نص اسمه الوتريات، غير أنه اختزل حياته فيه. سينوّع حياته على وترياته، وفيها سيقول كل ما يريد قوله، وسيلقيه من على المنابر كلها حتى عقده الثامن. يقول مؤرخو الرجل إنه شيوعي. الشيوعي العربي مجرد لجاج صوتي، مخبر صغير، ونصير انغماسي للديكتاتورية الأكثر فتكاً. ما كتبه الشيوعيون العرب من أحلام وخيالات حول شكل الدولة والمجتمع، وفقاً لتصوراتهم، فاق في فاشيته ما كتبه سيد قطب في المعالم. في العام 2015 حشد الحزب الشيوعي اللبناني آخر ما لديه من أعضاء [زهاء 161 رجلاً] وأرسلهم إلى حسن نصر الله، الأخير وزعهم على خطوط المواجهة مع الثوار السوريين، كتفاً إلى كتف مع الفاطميين الأفغان، الحوثيين اليمنيين،الباقريين العراقيين،ولفيف واسع من حماة الخرافة الدينية. داخل تلك الصورة بمقدورنا العثور على مظفر النوّاب، كما يمكننا التقاط آخر صورة لأسوأ النماذج الفاشية العربية. وكما فعل مثقفون شيعيون كثر امتدح مظفر النواب جهيمان العتيبي ومجد ثورته، وبمقدورنا تخمين الأسباب "الضامرة" التي دفعته لذلك!

جرى النقاش في سالف الأيام حول طائفية الرجل، وترافع محبوه قائلين إنه كان شيوعياً، وأن إحالاته الشعرية إلى ثورة الحُسين إنما تتعلق بموقفه من الطبقات المسحوقة بشكل عام، والحسين نموذج للاستشهادي البديع، الإنساني الذي يتجاوز دمه المُراق حدود الأديان. وأنه من غير اللائق استنباط نوايا الكاتب من خلال نصوصه [وهذا هراء مروّع]. 

 قُتل الحُسين، كما يخبرنا المؤرخون الشيعة، في صراع من أجل الحق. والحق، وفقاً لأكوام من تلك المصادر، هو السلطة. قدم الرجل إلى العراق يريد حقّه وحق أهله، وأهله هم الهاشميون، وهي طبقة رفيعة في مجتمع مكّة لا علاقة لها بالفقر ولا الحرمان. اصطدم الهاشميون بالأمويين في صراع مميت، والطرفان يمثلان أعلى ما في المجتمع من بورجوازية وهيمنة ومكانة. في موقعة الطف، حيث قتل الحسين، لم يكن هناك من فقراء إلى جوار الرجل. يُقال إن أهل العراق خدعوه،وهذا ممكن تاريخياً. غير أن الرجل حين عرض فكرته في المدينة أولاً، ثم في مكة، لم يتحمس لها أحد، ولم يخرج معه سوى عشرات الهاشميين باحثين عن حق العترة. لقد تخلت عنه، وتجاهلته، كل الحواضر، وليس الكوفة وحسب. كان هناك رجل واحد من الطبقات المسحوقة في جيش "عُبيد الله" صرخ بالحسين، وكان الأخير قد أوقد ناراً حول خيامه: استعجلت النار. فيناديه الحسين بصوت عال: أنت أولى به صلياً يا ابنة راعية الماعز. حتى وهو ذاهب إلى الموت لم ينس أن يبدي احتقاره لراعية الماعز. أمام الوسطاء الذين طلبوا منه أن يستأسر كان يزمجر: كيف وأنا ابن بنت رسول الله؟ كان مشبعاً بمجد أسرته السماوي، بما يظنه عن نفسه، وبإحساس بفائق بالقداسة والتفوق. 

وكان قبل خروجه من مكة ينهر القوم: ليس لمثلي أن يعطي بيعة لمثله. وجرت الأخبار إلى يزيد بما قاله الحُسين: جدي خير من جده، أبي خير من أبيه، أمي خير من أمه، وأنا خير منه. لم يكن الحُسين بالرجل الذي يعرف شيئاً عن الفقراء، وهو الذي سمع أباه يقول للناس إن ابنه مولع بالنساء وسرعان ما يطلقهن، فإن شاءوا أن يزوجوه فعلى مسؤوليتهم الخاصة. الحقيقة أن الوالد نفسه، عليّاً، كان لديه 35 من الأبناء، وليس لذلك من معنى سوى الولع بالنساء والوطء واللذة. وهي الخصيصة الأثيرة التي سينقلها إلى الأبناء. وهو ما سيفهمه معاوية وسيلعب عليه. في عمله حول الرقص والغناء في مكة والمدينة تتبع شوقي ضيف الحيوات الصغيرة في الحاضرتين، وسرد أخباراً مذهلة عن قوافل من آلاف الجواري كان معاوية يرسلهن لتوزع على كبار القوم في مكة والمدينة، والرجال الهاشميين تحديداً. بذلك النعيم كان يشتري صمتهم وحيادهم.  

 في الطف قُتل سبعة من أبناء علي، وفي المجمل خسر زهاء 72 من أهل بيته أرواحهم. لم يكن معهم سواهم، ما يعني أنها لم تكن ثورة. حيث نعرف عن الثورة أنها نظرية تقطع مع الماضي، أخلاقه وفلسفته وأنظمته، ويساندها العامة. كان الحسين وحيداً بلا سند، نظريته التي قدم بها من مكة هي: حقي، وحق أمي، وحق جداي، أنا ابن الأكرمين وسيد شباب الجنة. 

الحقيقة أن الرجل حين رأى الفخ الذي وقع فيه، وأدرك أنه ما من سلطان ينتظره، قدّم إلى الوسطاء خياراته الثلاثة: دعوني أرجع إلى المدينة، أو أذهب إلى يزيد وأبايعه، أو ارسلوني إلى الثغور. في الأجواء السياسية اللاهبة تلك رفضت مطالبه الثلاثة وقرر خصومه أن يجري عليه ما يجري على أي رجل قاد انقلاباً فاشلاً: الأسر، ثم رأي الحاكم فيه. تدهورت عملية الحوار تلك وانتهت بمقتله. تحوّل دم الرجل، كما يذهب جورج طرابيشي، إلى مقدمة لدين جديد بدأ بالفداء والأضحية، كما هي الطبيعة التاريخية لأغلب الأديان. ثمة مئات الكتب [أحصيت منها زهاء 250 في الأيام الماضية] حول ثورة الحُسين. الأعمال الإبداعية التي دارت حول شخصيته تستصعي على الحصر. واحد من تلك المؤلفات التي تعالج ثورة الحسين ذكر حوالي 13 سبباً دفعت الرجل للثورة، السبب رقم 13: لاسترداد حقه الإلهي الذي منحه الله إياه. الأسباب ال12 السابقة تتعلق بحزنه وألمه على ما آل إليه الناس من ظلم وجوع.  أي مجرد خداع لفظي وديماغوغي لإخفاء الدافع الأساسي لحركة الرجل. 

على أن مظفر النواب، في الوتريات على سبيل المثال، لم يأت بالحسين وحسب، بل ذهب بعيداً جداً: هجا السقيقة وحملها وزر التاريخ [حيث جرى اختيار أبي بكر خليفة]، هجا أصحاب النبي الذين "خرجوا بإحدى زوجاته"، عثمان وأبناءه، معاوية، الأمويين، ولام النبي لأنه لم يقتل الأمويين أثناء فتح مكة. وعاد أكثر من مرة ليقول إنه قرمطي [قال بيان الثورة القرمطية: آن أوان الفاطمية الزهراء المؤيدة بأهل الأرض وأهل السماء]. عاد النواب أكثر من مرة في أكثر من عمل ليؤكد انتماءه القرمطي. كما مجد أبا ذر الغفاري [ولذلك سبب لا علاقة له بزهد الرجل في الدنيا]، اختزل التاريخ في علي، وصعد حتى النهاية قائلاً إن تاريخ العرب المجيد هو القرن الرابع. القرن الرابع الهجري، كما يعرف دارسو التاريخ، هو القرن الذي تفككت فيه الإمبراطورية الإسلامية وبرزت فيه عدد من الدويلات "الفاطمية الزهراء". قال النواب إنه "ينتمي إلى القرن الرابع"، إلى ذلك الشتات والتمزق "الأزهر".  

يحضر الخنازير في أشعار النوّاب، وسبق أن منح الوصف لحكام الخليج. لكنه، مع الأيام، سيتلقى دعوة إماراتية وسيذهب إلى تلك البلاد ويعيش. وكالعادة سيطلب منه أن يقرأ الوتريات، التي لن يستثني منها أحداً، على مسارح البلاد وسيفعل بعد أن يحذف منها ما يتعلق بحاكم دبي ورأس الخيمة وجيرانهما. أي: سيواصل الاستثناء. وسيصفقون له.

وجد النواب في حياته متسعا لكل شيء عدا أمرين: موقفه من الديموقراطية، ومن الربيع العربي. بالأمس نعاه حسن نصر الله قائلاً إنه سيقرأ شعره لأبنائه. أن يكتب المثقف عملاً يصلح لأن يكون درساً نموذجياً لأبناء حسن نصر الله لهو حدث يسترعي أكثر من الانتباه ورفع الحاجبين.

النوّاب سليل أسرة هاشمية، ويمكننا ملاحظة أنه حين "يتبول على الحكام" هو يفعل ذلك كسيد هاشمي لا كبطل شائع. إذ هو الرجل الذي قال إنه سيشد السيفون على كل من عدا "عليّ وشيعته"، وهو الذي مجد الهاشمية التاريخية في أشعاره، لأسباب ضامرة تتعلق بأصلهم البيولوجي.

 الشيوعية العراقية، بشكل عام، حالة من الفوضى والتستر والتناقضات. ذلك ما دفع الشاعر الكبير السيّاب لمغادرتها والكتابة عن تلك التجربة. في العام 1959 كتب السياب عبر صحيفة الحرية 29 حلقة، أتبعها ب11 فيما بعد، بعنوان "كنت شيوعياً". صدرت تلك المذكرات عام 2007 ضمن منشورات الجمل في كتاب. يمكنك أن ترى من خلال تلك الشهادة الداخلية الفوضى والمخاتلة والتقية، وهي ما ستجده في أعمال وحياة مظفر النواب. فلو أننا وضعنا "الزانية" مكان القحبة، و"العترة" مطرح أعناق أباريق الخمر فسوف نحصل على نص ذي طبيعة دينية اسمه "وتريات ليلية" بالنظر إلى خطابه وحتى لغته ومجازه. 

ما كتبته هنا ليس إدانة للنواب، فالرجل لم يحرص على الإتيان بالنقيض، بل لأقول شيئاً آخر: لم يكن الحسين ثائراً، كما لم يكن مبدعاً ولا مثقفاً، ولا مكان له داخل الإنتلجنسيا العربية المبكرة لا فقها ولا فلسفة ولا إبداعاً. حتى إنه، ويا للعجب، لم يتبرع برواية حديث واحد أو تفسير آية واحدة. تبدو شخصية مسطحة تفتقر إلى أي درجة من العمق، عدا أن أمه سيدة محترمة من آل هاشم. يُقال ويكتب عنه أطنان من الورق، لكنه شخصياً لم يقل شيئاً، أبكم غاية البكم، سوى بضع مقولات لا قيمة لها، حتى إن محبيه لفرط ولعهم بالرجل نسوا أن يضعوا الكلمات على فمه كما يفعل المخرج مع أبطال المسرحية، وتحدثوا بدلاً عنه. أما علي، بطل مظفر النواب الأكبر، فكان إمبراطوراً حكم دولة مترامية الأطراف، كان الإمبراطور الإسلامي الوحيد الذي قاتلت جيوشه داخل أراضيها وليس على حدودها. ما من معنى لأن يكون أي من الرجلين بطلاً لمواطني العصور الحديثة سوى في سياق لاهوتي محض. إذ كيف يمكنك أن تكون شيوعياً ثائراً وأنت تمجد الإمبراطور وأبناءه، تعظّم سلالة رفيعة وثرية و"مقدسة"، وتنتصر لنبي أنت تستخف بإلهه. 

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!