المقالة التي غيرت القرية

د. مروان الغفوري
الاثنين ، ٠٩ مايو ٢٠٢٢ الساعة ١٠:٣٢ مساءً
مشاركة |

قال جاري إن أهل القرية يأتون على سيرتي قبل كل لعبة تنس. التنس هو الشيء الوحيد الذي يجمع القرويين إلى جانب كنيسة حيّة. أترك حشيش الحديقة ينمو دون عناية، قالوا. دعاني إلى منزله، وحدثني عن أشياء من الماضي. قال إن جاره المتوفي باع نعليه مقابل كيس من البطاطا إبّان الحرب. وجد لهما مشترياً بالقرب من عاصمة الولاية. زرع الرجل وجيرانه كل ما في الكيس، وهكذا امتلكت القرية طعامها في تالي الأيام. أنقذتهم الأرض من الموت، لذا فهم يستاؤون حين تتعرض للإهمال. قلت له إنهم يردّون التحية ببطء، حتى إني أتساءل ما إذا كانوا قد اكترثوا لمروري بالقرب منهم. ضحك، وقال إن والده كان يملك كلبين: كلباً كبيراً يراقب الطريق ولا ينبح سوى الأغراب، وكلباً صغيراً لا يغادر الحقل ولا ينبح قط. كان والدي إذا سمع نباح الكلب يركض إلى المنزل، فثمة شخص غريب. ولكن لماذا ينظرون إلى حديقتي؟ قال: لا ينظرون إلى حديقتك، بل إلى الأرض. إلى أرض بلادهم. 

بعد بضعة أشهر من انتقالي إلى القرية، في مرتفعات مدينة إيسن،ألقيت التحية على رجل كان يقف في بلكونته. رد منتشياً: مرحباً يا دوك، مرحباً، هل كل شيء على ما يُرام؟ هززتُ رأسي وشكرته على سؤاله. قلتُ لنفسي: ما الذي تغيّر بحق الله؟ سألت زوجتي، وجلسنا نضرب الودع وخانتنا كل التخمينات. في تالي الأيام التقيتُ جاري، الذي سيصبح مريضاً عندي، ثم صديقي. قال مبتسماً: بالطبع ليس شخصاً واحداً هو الذي حياك بهذه الطريقة؟ قلتُ له: كلهم، لقد تغيّرت مشاعرهم تجاهي فجأة مع إني لم أقص حشيش الحديقة سوى مرات قليلة. قام وعاد، وضعي أمامي على الطاولة نسخة من صحيفة WAZ  : صحيفة غرب ألمانيا. استخرج ملفاً من الصحيفة، وفتح على صفحة محددة مشيراً إلى العنوان: هذا هو السبب. كتبت نائب رئيس التحرير "كريستينا فاندت" مقالة عن طبيب من مدينة إيسن يخوض كفاحاً ضد كورونا من خلال تطبيق طبي. تجاوزت فكرة التطبيق وكتبت عن علاقتي بالكتابة والكتب، وبألمانيا. سألت جاري: تريد أن تقول إن القرية كلها قرأت المقال؟ أجاب وهو يلقي بظهرها إلى الوراء: بالتـأكيد. أنا على سبيل المثال مشترك في الصحيفة منذ العام 1964، تصلني بانتظام منذ ذلك اليوم على البريد، لم تتأخر يوماً واحداً، وكذلك سائر أهل القرية. حسبت السنوات في بضع ثوان. إلهي. ستون عاماً. أنت تمزح؟ لا، أنا أمزح. والآخرون؟ الآخرون أيضاً. سألته: هذه قرية متدينة، أخمّن. في اليوم الدراسي الأول يقام حفل في الكنيسة، يمنع فيه التصوير، ويأتي الأب ويبارك الملتحقين الجُدد. بارك ابنتي، وضع يده على رأسها، وكان البخور يملأ الأجواء. كانت لحظة مهيبة، وكان الحاضرون غاية في الرضا والسلام. أجابني: يمكنك أن تقول إنها محافظة، سأشرح لك كيف تتغير الأهواء السياسية هنا. خرجنا من الحرب مهزومين ومتوجسين، وكان المسيحي الديموقراطي في انتظارنا. انتشعت الكنيسة بعد الحرب، وجدنا فيها عزاء ما وسكينة. مع الأيام، أثناء المعجزة الألمانية في خمسينات القرن الماضي، أنشئت المصانع وتكاثرات مناجم الفحم، كانت أجواء العمل رهيبة،تشوه أجساد رجال كثيرين من القرية. هذا ما أعطى اليسار فرصة وحضوراً. صرنا يساريين، وكان اليسار هو ملاكنا الحارس أمام وحشية المصانع، وتراجع المسيحيون إلى الخلف. ثم أغلقت المصانع تباعاً وكذلك والمناجم، أو انتقلت إلى أماكن أخرى. كان أن الطبيعة تلوثت على نحو ضار: منازلنا، النهر، والغابات المحيطة. عشنا أيامنا ما كان بمقدورنا فيها أن ننشر ملابسنا في البلكونا خوفاً عليها من الأجواء الملوثة بأدخنة الفحم. ظهر الخُضر ودافعوا بشدة عن الأرض والبيئة وتراجع اليسار إلى الخلف. صرنا خضراً بعد إغلاق المصانع. والآن؟ سألته. قال: نلتقي في ميدان التنس كل مساء، نتحدث عن الرياضة. يبلغ من العمر ثمانين عاماً، يلعب التنس، ويعمل في الأرض، ويراقب الغزلان بعد الفجر. قال لي فيما بعد إن بعض رجال القرية ربما صاروا يحسدونه لأنه صديق للدكتور. 

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!