النسور تحلق، القيامة تتنفس

د. مروان الغفوري
الثلاثاء ، ٠١ مارس ٢٠٢٢ الساعة ٠١:٠٩ صباحاً
مشاركة |

هذا اليوم كان واحداً من الأيام النادرة في البرلمان الألماني [بونديستاغ]. وقف رؤساء الكتل البرلمانية وتحدثوا على خلاف ما نعهده عنهم من التروّي واللغة المركبة التي تقول ولا تشير سوى إلى نفسها. ألمانيا تدخل سباق التسلح رسميّاً، هذا هو خبر اليوم وغدا. يُروى عن قائد القوات الأميركية في ألمانيا بعد الحرب أنه قال: نحن هُنا لنبقي الرووس في الخارج والألمان في الأسفل. تململ كل شيء، تحركت التكتونات الأرضية، وقرر الألمان أن يخرجوا من ذلك الأسفل. ميرز، صقر المسيحي الديموقراطي، نظر إلى وزيرة الدفاع الألمانية وقال لها زاجراً: ما هذا الضعف الذي تعانيه قواتنا المسلحة؟

المستشار الألماني [يسار ديموقراطي] فتح صندوق باندورا وأخرج بعضاً مما فيه: علينا أن لا تساورنا الشكوك، بوتين لا يريد سياسة ولا يعترف بالدبلوماسية. سنتوسع في صناعة المسيرات بالتعاون مع فرنسا وإسرائيل، سندعم قواتنا الجوية بإف 35، سنزود قواتنا المسلحة بالتكنولوجيا المتطورة، سننتج أجيالا جديدة من العربات القتالية والمقاتلات، ونوسع مشاريع الطاقة، ما يجري في أوكرانيا هي حربٌ على الإنسان الحُر وعلينا أن نتأكد أننا قادرون على الدفاع عن أنفسنا. خلفه رئيس الكتلة البرلمانية للإئتلاف المسيحي [حزب ميركل] فريدريش ميرز. ميرز الذي خسر طريقه إلى المُستشاريه ارتفع صوته مرات عديدة، وتوجه إلى بوتين قائلاً: انتهت اللعبة يا بوتين. ثم نظر إلى الموضع الذي يجلس فيه المستشار الألماني وخاطبه: نحن مسؤولون عن الوضع الضعيف لقواتنا المُسلحة، وآن الأوان لإعطاء الجيش أولوية قصوى. ثم عاد إلى بوتين: سنطور قواتنا المسلحة وندمر اقتصادك، سندمر اقتصادك. ليندر، وزير المالية ورئيس الحزب الليبرالي الألماني، كان منفعلاً وهو ينقل خبراً للبرلمان: 100 مليار يورو لتطوير القوات المسلحة والصناعات العسكرية إلى جانب الموزانة السنوية [حوالي 48 مليار يورو]. لم تتلكأ بوربك، وزيرة الخارجية عن الخُضر، وهي تعلن أن ألمانيا ستقف بكل ما لديها مع أبطال أوكرانيا، وأنها مع شركائها ستضرب "نواة الاقتصاد" الروسي. لن يتأثر بوتين اليوم، قالت، ولن ندفعه لإيقاف الغزو غداً، لكننا سنلقي ببلاده إلى الحضيض، ولن يكون قادراً مستقبلاً على مواصلة أوهامه، واصلت كلامها. وهو ما علّقت عليه أميرة محمد، رئيسة الكلتة البرلمانية لليسار الراديكالي، بالقول: إن ألمانيا ستقف أولاً مع الأبطال الروس المنادين بالحرية والرافضين للحرب، من يواجهون نظام بوتين ولصوص المال الذين حوله. أفردت أميرة محمد، كما هي المدونة الخطابية لليسار الراديكالي، مساحة واسعة لمهاجمة الأوليغارشيين الروس، بوتين ومن حوله، من يسرقون أموال بلادهم ويخبئونها في الواحات الضريبية.  يتضح كل يوم أن اليسار الأوربي، بما في ذلك اليسار الراديكالي، انتظم إلى جوار الحق الأوكراني ضد الغزو الروسي. اليمين النازي، مثل AFD في ألمانيا، يدين الغزو، ويسميه غزواً بوضوح، لكنه ينشغل أكثر بما أسمته أليس فايلاند، رئيسة كتلة الحزب البرلمانية، دهر من الإغواء الكاذب من قبل الغرب لأوكرانيا. 

كانت ناشونال إنتريست قد نشرت تقريراً مهما في الأيام الماضية عن المشروع النووي السويدي، وهي عملية طموحة بدأتها البلاد أواخر الخمسينات، وربما أحيتها مؤخراً. تحركت القوات المسلحة من بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا، اليونان، أسبانيا، هولندا، أميركا، وغيرها إلى شرق أوروبا. الجيش الأميركي كثف حضوره في ثمان دول محاددة لروسيا، من البلطيق شمالاً حتى بلغاريا جنوباً. تدافع الناتو إلى ثمان دول على حدود روسيا، كاشفاً تفاهة ذريعة غزو أوكرانيا. إذ إن المسافة من ليتوانيا إلى موسكو أقرب منها من أوكرانيا. ذلك ما كان يخشاه بوتين؟ بالأمس قال وزير الدفاع البريطاني إنه اتفق مع وزراء دفاع 25 دولة على تزويد الجيش الأوكراني بالسلاح.

ستعج أوكرانيا بالسلاح الفتاك المحمول على الكتف، ثمة مستنقع لن يقدر بوتين على العوم فيه إلى ما لانهاية. ثمة مأزق رهيب لا يفكر بوتين بالإجابة عنه: كيف يمكنك أن تتحكم ببلاد يسكنها 44 مليون نسمة، تمتد مساحتها لـ 600 ألف كم متربعاً، ولدى مواطنيها شعور عال بهويتهم ومعركتهم؟ الجيوش الكبيرة بمستطاعها أن تدمّر الجيوش الصغيرة، غير أن احتلال بلدانهم مسألة أخرى. إن خبرة بوتين في الشيشان [بلدة صغيرة من 15 ألف كم مربعاً، وأقل من 2 مليون نسمة] لا يمكن نقلها إلى بلد حجمه الجغرافي خمسين ضعفاً، وكتلته الديموغرافية أكبر 40 مرّة من الكتلة الشيشانية، ولديه خبرة مع الحرية والحياة المفتوحة، وهو مفتوح على ثلاثين سوقاً للسلاح الحديث. تذهب التعليقات السياسية الألمانية إلى القول إن محاولة السيطرة على أوكرانيا عبر نظام موال لموسكو، كما في حالات أخرى، ستعني أن على ذلك النظام أن يتحلى بأعلى قدر من الدموية والوحشية، وأن يحرسه الجيش الروسي إلى الأبد، إذ لا توجد وسيلة أخرى لاحتواء هكذا مشهد معقد وشاسع. 

في الداخل الروسي، كما استعرضت صحيفة بيلد الألمانية هذا الصباح، أسكت نظام بوتين كل الصحافة في بلاده، وحظر الحديث عن حربه في أوكرانيا. لا بد وأنه ضعيف من الداخل، وسيزداد ضعفه مستقبلاً مع انهيار السوق والنظام المالي. بدلاً عن "الحرب" يستخدم الإعلام البوتيني مصطلح [عملية عسكرية محدودة]. تبدو أكاذيب النظام الروسي التي يقدمها في مؤتمراته الصحفية موجهة إلى الداخل أكثر منها إلى العالم. فقناة Rossija 24 تزف إلى الشعب خبر سلامة كل جنودها [الذين يتحركون في عملية عسكرية]، مع حديث متكرر عن الأوكرانيين الذين يقصفون منازلهم بالصواريخ لإثارة العالم ضد روسيا.  صحيفة كومزومولسكايا برافدا، تتبع الكرملين وواسعة الانتشار، تحدث الروس عن الأوكرانيين الذين استقبلوا الجيش الروسي بالأناشيد، قائلين إنهم تنفسوا هواء الحرية أخيراً. يحول بوتين منزله الكبير إلى جمهورية موز صغيرة ومثيرة للضحك، يسخر من مواطنيه ويخاف منهم. هذا الشكل البائس لبنية الدولة، حيث نظام الحكم يزيّف شكل العالم أمام شعبه، يمكّننا من التنبؤ بصورة روسيا بعد الغد. لم تكن روسيا قد تعافت من حقبة "الفقر والصواريخ" حتى أدخلها بوتين في حقبة صواريخية جديدة. النمو النسبي الذي عاشته في العقدين الأخيرين كان نمواً ريعيّاً، فقد عثر الراعي على بئر عميقة وراح يبيع مما عثر عليه. 

 الحقيقة أن هناك استثناء رائعاً في روسيا، ثمة مجتمع مدني يناضل للخروج من الخديعة، الديموقراطيون، المبدعون، قوى اليسار، والمثقفون يقفون في واجه الآلة البوتينية بشجاعة لا تقل عن شجاعة الأوكرانيين. يستعين، في مواجهتهم، بالبطش والكنيسة، ويحاكم المخرجين السينمائين [كما حدث قبل عام] بالسجن لسنوات طويلة. أمس، وذلك مشهد آخر للمقاومة، نشر العلماء والباحثون الروس، ومعهم الصحفيون العلميون، رسالة مفتوحة إلى بوتين. قالت الرسالة إن رئيسهم يشن حرباً لا علاقة لروسيا بها، وأنها تهدف لإرضاء أوهامه الإمبراطورية. قالوا إنهم يعلمون أن أوكرانيا الجارة لم تكن قط تهديداً. وضعوه في الصورة: هذه الحرب ستؤدي إلى عزلتنا، ما يعني أنها ستقضي على فرصنا في مواصلة البحث العلمي، لا يمكننا أن نواصل البحث بعيداً عن باقي العالم. إليهم تجرأ ديمتري مورادوف، الحائز على نوبل في السلام، في الأيام الماضية على الحديث إلى قراء صحيفته عن الحرب.

قال إنها حرب، وليست "عملية"، ونشرت صحيفة صورة لجندي روسي قتيل. لم تتمهل السلطات الروسية، أعطته تحذيراً أخيراً، وربما غداً أو بعد غد ستعمد سلطات بوتين إلى إطفاء آخر صحيفة حرة في روسيا [صحيفة نوفايا غازيتا].

الساسة الألمان الذين يتحدثون عن عالم ما بعد 24فبراير، مؤكدين إنه سيكون مختلفاً عمّا قبله، خاطبوا الشعب الألماني: سيكون هناك ألم، علينا أن نتحمله كثمن لحريتنا. لقد دخلنا في سباق تسلح جديد سينهي كل ما راكمناه من "أوهام"، بحسب تعبير السياسي الألماني، ووزير المالية، ليندر. 

إن ما يخيف في هذه الحرب هو حقيقتها الأساسية: لن يسمح الروس لأنفسهم بأن يخسروها، وكذلك الأوكرانيون/ الأوروبيون. ربما ستأخذ شكلاً قريباً من الحرب الأهلية الأسبانية حين ذهب كل العالم إلى هناك للقتال كل إلى جانب فريقه، بمن فيهن ستالين وهتلر وهمنغواي. أخذت تلك الحرب بضع سنوات، انتصرت فيها الفاشية على الديموقراطية. وما إن انتهت، بضعة أشهر وحسب، حتى انطلقت الحرب العالمية الثانية، ووصلت إلى كل الدنيا.

لقد كانت الحرب الأسبانية البروفا الأخيرة قبل الحرب الكبرى. ولم يكن هتلر يتخيّل قط أن عزوه لبولندا، البعيدة عن فرنسا وبريطانيا، ستدفع الدولتين إلى إعلان الحرب على جيشه. ومضى بعيداً، رغم مخاوفه، معتقداً أن تعاقده مع ستالين سيحمي ظهره من الشرق. ولكن من بمقدوره أن يعرف ما الذي ستفعله الحرب غدا؟ وكيف يضمن بوتين أن صديقته الصين لن تغيّرها الرياح فتصير بالنسبة له كما ستالين لهتلر. الحقيقة أن بوتين غرق في أوهامه ويبدو أنه ما من مفر أمامه سوى العوم حتى النهاية.

الظاهرتان المناخيتان إل نينيو وإل نينيا

لا تعليق!